حسين علي الحمداني
المواطنة هي التعبير الاجتماعي لعملية انتماء وعطاء الإنسان للواقع (الموقع الذي يعيش فيه)، وفي ظل تسارع التغيرات الذي يعيشها عالم اليوم في جوانب الحياة المختلفة (السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية)
فإن الحاجة تتطلب تحرير عدد من المصطلحات التي غالباً ما تكون عرضة للتساؤل خصوصاً أن شبكة الاتصال العالمية يزداد تأثيرها يوماً بعد يوم. ولعل مفهوم المواطنة من أكثر المصطلحات حاجة إلى الإثارة والمدارسة والفهم ومن ثم التجسيد، ذلك أن الانتماء حاجة متأصلة في طبيعة النفس البشرية، وإنسان من غير وطن ... تائه، والوطن من غير إنسان مهجور لا معنى له.ومن هنا تبرز أهمية مطارحة هذا (المفهوم) الحيوي لتحليل المركبات التي يتألف منها من جهة وكيفية رعايتها ومن ثم بحث طبيعة التأثير والتأثر والتفاعل المطلوبة من جميع مكونات هذا المعنى لتعزيز مقوماته الذاتية وإيجابية علاقاته الخارجية.
وإذا كان الاجتماعيون يرون بأن المجتمع القوي في تضامنه هو مجتمع غني بالمواطنة، فإن تآكل المعاني المشتركة والمعتقدات العامة وبالتالي بروز الفردانية والمادية المفرطة هو علامة لتقلص المواطنة الفعلية.
و إلى ذلك كان مهم أن تطرح هذه القضية للحوار، والأهم أن تتضح صورتها والأكثر أهمية أن نحياها في واقعنا.
فلسفة المواطنة ومفاهيمها
البحث عن معنى للانتماء بل للحياة غريزة فطرية يحتاجها كل إنسان. وعادة ما يُنسب الإنسان لأبيه وأسرته ومن ثم لوطنه وعقيدته. ومع أن الواقع يبرز عدداً من (صراع الانتماءات) بين هذه الدوائر وغيرها،و يتعداه إلى خلق عدد من التوترات والمخاطر على المستوى الأسري والوطني بل والعالمي، فإن الحاجة اليوم أكثر إلحاحاً إلى نمذجة واعية لتأطير هذه الانتماءات وإبراز منظومة من التفاعل فيما بينها لتخدم كل واحدة منها الأخرى فيما يحقق مصلحة الجميع ورفاهيته.
ولا تزال مجموعة من المفاهيم في ساحتنا الثقافية والاجتماعية شائكة وغير منضبطة في وعي أفراد المجتمع ومؤسساته، ما يسبب خللاً في الممارسات السلوكية التي هي اليوم أحوج ما تكون إلى دور رائد وشجاع من العلماء والمفكرين ليحسموا ما أشكل فيها، ومن ثم يسهمون في تشكيل وعي المجتمع فيما يخدم علاقة الإنسان بنفسه وبيئته وعالمه.ومن هنا يأتي مفهوم الوطنية/ المواطنة كأحد المفاهيم المهمة والمحتاجة إلى رؤية متزنة وحكيمة تنفي ما يتعلق بها من خلل (إفراطاً وتفريطاً) ولتؤكد من خلالها على المشـاركة الفاعلة والواعية خــدمة للمجتمع وتنميته.
مفهوم الوطنية/المواطنة وأبعاده الفلسفية
في تقديرنا أن الوطنية هي الإطار الفكري النظري للمواطنة. بمعنى أن الأولى عملية فكرية والأخرى ممارسة عملية. والمواطنة (مفاعلة) أي مشاركة. وبهذا يكتمل ويتكامل معنى التجريد بالتجسيد. وقد يكون الإنسان مواطناً بحكم جنسيته أو مكان ولادته أو غيرها من الأسباب لكن التساؤل: هل لديه (وطنية ) تجاه المكان الذي يعيش فيه؟. هل لديه انتماء وحب وعطاء.؟ ذلك هو المعنى الذي نحن بصدده.
يشير عدد من الباحثين بأن مفهوم الوطنية/المواطنة اصطلاح حديث لا أن المعنى الذي تستهدفه الوطنية قد تناولته من قبل أفكار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين. ويذكر البعض أن الاهتمام بهذا المصطلح قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية. ولفظ (مواطن) تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة(1789) أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب – إلا تبعاً لشيء من ذلك- وسيلة من وسائل الارتباط.
الذي يبدو لنا من وجهة نظر خاصة أن الرسول محمداً (ص) كان أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول (ص)على جنبات المدينة المنورة كعلامات تقع مسؤولية من أخل بداخلها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته، ويوضح ذلك دستور المدينة(صحيفة المدينة التي تعد مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية)..
وتعرض بنود صحيفة المدنية( 47 بنداً) مبادئ مهمة لفكرة المواطنة، حيث نصت على تكوين مفهوم الوطنية/المواطنة واحترام حقوقه وواجباته لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. إضافة إلى تحديد النطاق الجغرافي الذي يحاسب عليه أي إنسان اقترف جرماً داخل ما يسمى بجوف المدينة. كما تؤكد الصحيفة مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة مسلمين وغيرهم ، وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله ما يعني تأكيد السيادة الشرعية. وتشتمل الصحيفة على آداب وتنظيمات كثيرة.
وتتعدد مفاهيم الوطنية وتعريفاتها فمنها ما يحمل معنى عاطفياً وانتماءً وجدانياً للمكان الذي ألفه الإنسان، ومنها ما يحمل معنى فكرياً يفضَّل فيه المكان على شريعة الرحمن ومنها ما يؤسس لمعنى قانوني يعبر عن واجبات المواطن وحقوقه تجاه وطنه. ونستعرض عددا من التعريفات منها: أن الوطنية تعني (العاطفة التي تعبر عن ولاء الإنسان لبلده)، والوطنية عند آخرين تعني تقديس الوطن وتقديمه في الحب والكره بل والقتال من أجله حتى تحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية والوطنية في معناها القانوني الحديث تعني انتماء الإنسان إلى دولة معينة يحمل جنسيتها ويدين بالولاء لها. وتعرِّف الموسوعة العربية العالمية الوطنية بأنها تعبير قومي يعني حب الشخص وإخلاصه للمواطنة بأنها عبارة عن مجموعة من الحقوق والواجبات يتمتع ويلتزم بها في الوقت ذاته كل طرف من أطراف هذه العلاقة, وقسم آخر يقول بأن المواطنة: تعبير عن جوهر الصِّلات القائمة بين دار الإسلام وبين من يقيمون في هذه الدار من مسلمين وذميين مستأمنين . ويضمِّن عدد من الكتاب مفهوم المواطنة أصول مفاهيم الإسلام حيث تستوجب عدم الإشراك بالله!! والتحلي بالصبر والصدق، و المواطنة هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن , ويؤكدون بأن مفهوم المواطنة قانوني في المقام الأول ثم يؤكد بأن المواطنة هي أساس الشرعية ذلك أن مجموع المواطنين هم الذين يختارون حكومتهم عن طريق الانتخاب.وبالتالي لا يمكن أن نفهم المواطنة من غير تأسيس ديمقراطي في المجتمع.
من هنا يتبين من خلال هذه الجولة المختصرة لمفهوم الوطنية مدى تباين المفاهيم وسعة الاختلاف فيما بينها (رفضاً وقبولاً) مما يؤكد الحاجة إلى طرحها للنقاش للوصول إلى فهم أكثر عمقاَ وواقعية علمية ذلك أن هناك من يتحدث عن المفهوم – كما تبين- ويخلط بينه وبين مفاهيم العقيدة والشريعة الإسلامية ومنهم من يجعله عقيدة في ذاته إلى غير ذلك مما سبق طرحه. والملاحظة المهمة إزاء ذلك كله أن هناك من يتحدث دون تخصص من جهة ويلغي من حساباته أحياناً اختلاف البلاد وأنظمتها وسياساتها وخصوصياتها من جهة واختلاف استخدام المفاهيم والمصطلحات العلمية وما يترتب عليه من جهة أخرى.
وتتراوح طروحات الغربيين بين رؤى تختصر العلاقة بين الفرد ودولته إلى أدنى درجة ممكنة وبين أخرى ترى أن الفرد لا يعني شيئاً أمام دولته، ففي الأولى لم توجد الدولة إلا من أجل الفرد وفي الأخرى لم يوجد الفرد إلا لخدمة دولته.
ويعتمد منظرو فلسفة المذهب الفردي أمثال (جون لوك) و(جان جاك روسو) على أساس الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته العامة باعتبارهما حقوقاً طبيعية لكل فرد وليست مكتسبة، ومهمة الدولة احترام وضمان تلك الحقوق.
وإذا كان المذهب الفردي يتجه إلى المساواة النظرية بين أفراده فإن الواقع الفعلي يؤكد عدم تساوي الأفراد في ظروفهم وقدراتهم وبالتالي فإن (البقاء للأصلح) كمبدأ يتبناه هذا الاتجاه لا يتفـق مع القيم الإنسانية والشرائع السماوية بل ويهدم حقيقة المواطنة الحقة ، ذلك أن هذا التوجه الفكري يرسخ سلبية الانتماء للمجموع وبالتالي يعزز الأنانية ويعمق الفصل بين الأفراد ودولتهم.
وفي مقابل الجدل القائم لضمان مجتمع آمن ومستقر من خلال مواطنة عادلة ومسؤولة، يطرح المذهب الاشتراكي أنه لا معنى للحرية الفردية في ظل صراع المصالح الخاصة للطبقة الرأسمالية وما جدوى الحرية المضمونة بالدستور إذا كان الإنسان لا يجد الحماية من المخاطر والابتزاز بل وما فائدة حرية العمل إذا كان المواطن يترك فريسة للبطالة ما يضطره إلى التنازل عن حريته وكرامته ليواجه شروطاً حياتية صعبة.
وهكذا يطرح هذا التوجه أساس فكرة المواطنة على أن الدولة مسؤولة عن الفرد ابتداءً وانتهاءً فلا مظهر لملكية فردية فالكل يخدم الدولة والدولة تحدد دخول الأفراد حسب الحاجة وتشرف على الإنتاج ونوع المنتج وتلحق الإفراد جميعاً في خدمة الدولة سعياً لمحو الطبقية وتحقيقاَ للمساواة (هكذا يظنون!). وكان من رواد هذا التوجه (فرنسوا فريبيه، وروبرت أوين) ولكن الشخص الذي ارتبط اسمه بهذا التوجه الفكري هو ( كارل ماركس).
وترتكز فلسفة هذا الفكر على إلغاء الملكية الفردية الذي يُعتقد أنها الباعث الحقيقي لعملية الصراع الاجتماعي. ولذلك اعتمدت على مبدأ العمل للدولة فقط وفق شعار(من كل حسب طاقته ولكل بحسب حاجته).
وإذا كان التوجه الاشتراكي ينزع إلى محو طبقة الرأسمالية وتحكمها في سير الأمور، فإنه في الوقت ذاته خلق تسلطاً أكثر قسوة وبطشاً من خـلال سلطة الحكومة.
وهكذا تتراوح الرؤى والفلسفات في الغرب بشكل ينقض بعضه بعضاً من أجل خلق مواطنة فاعلة ومنتجه ومسؤولة.
وإذا كان الفكر الاشتراكي قد استنفد أغراضه وتساقط فإن التخوف قائم ومشاهد لدى كثير من المفكرين الاجتماعيين على أن الغرب الليبرالي هو في الطريق إلى ذلك. ويعزو المفكر المستقبلي (اينشارد ابكرسلي) التفكك الاجتماعي في الغرب إلى الفشل في إعطاء " معنى وانتماء وهدفٍ لحياتنا، وعدم وجود إطار عمل لقيمنا، وبتجريدنا من معنى أوسع لحياتنا، فقد دخلنا في حقبة يتزايد فيها انشغالنا بذاتنا بشكل مرض.
إشكالية الإسلامية والوطنية
استجابة التشريع الإٍسلامي لسنن الحياة الاجتماعية أمر جلي وواضح، لكن استجابتنا نحن أو تقديرنا للمسألة الاجتماعية محل النقاش قد يشوبها خلل وذلك الذي يحتاج إلى مدارسة ونقاش. وهنا فالإسلام يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله (ص)أنه(ليس منا من دعا إلى عصبية) أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى.
لكن المسألة المهمة هنا هي أن تجاوز الناس لحدود معنى القبلية أو العصبية أو الإقليمية لا يعني إبطال مفعولها إسلاميا وفطرياً، ذلك أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك.
وما أكثر ما تنتهك الوطنية/المواطنة في مختلف المجتمعات بسبب العصبية والعنصرية والقبلية والإقليمية والزمالة..الخ وكل ذلك من خروقات تقع على الوطنية الحقيقية وسمة جاهلية كما عبر عن ذلك الرسول (ص) للصحابي الذي تلفظ – مخطئاً- ( بابن السوداء)!.. ذلك أن السواد والبياض ليسا صنعة بشرية وإنما إرادة إلهية ، ومن يستنقص الخلق فإنما يتجرأ على الخالق. ومن يقدِّم من لا يستحق على من يستحق فإنما يخرق الوطنية ويبوء بإثم كل واحد حُرم من قدرات ومهارات من كان أهلاً لذلك المكان.
الحقيقة التي لاشك فيها هي أن الإسلام يؤكد إعلاء الرابطة الدينية على كل رابطة سواها، سواء أكانت رابطة نسبية أم إقليمية أم عنصرية، فالمسلم أخو المسلم، والمسلم أقرب إلى المسلم من أي كافر بدينه، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وهذا ليس في الإسلام وحده بل طبيعة كل دين وكل عقيدة. والوحدة المطلوب تبنيها على مستوى العقيدة غير تلك المطلوبة على مستوى الوطن فالأولى أرقى وأسمى من أن تحدُّها الحدود والأخرى بطبيعتها ووظيفتها لها حدود.
والفكر الذي نستشعر أهمية مراجعته هو القبول بالجملة أو الرفض بالجملة للوقائع والمسائل والمستجدات الحادثة، ولذلك فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى (منهج يعتمد على التفصيل في الأشياء والموازنة بين الأمور) وذلك منهج شرعي نحتاج إلى مدارسته وتجسيده .
ومن هنا فالفهم الذي نريد التأسيس له وتأصيله هو أن الحدود الواقعية معتبرة وأن وحدة الأمة عالمياً لا تتنافى وخصوصيتها وطنياً، فلكلٍّ أهميته واعتباره وآثاره لكن نفي أي منها لصالح الآخر يعكس تقصيراً في استدراك حقائق الوطنية وأبعادها ومقاصدها من جهة والشريعة الإسلامية من جهة أُخرى.