"يوم رائع للموت" لسمير قسيمي
رد اعتبار لأبطال الهامش الاجتماعي
يوميات أبطال الهامش الاجتماعي
سعيد جاب الخير
صدرت عن الدار العربية للعلوم في بيروت ومنشورات الإختلاف في الجزائر، الرواية الثانية للزميل والكاتب سمير قسيمي تحت عنوان "يوم رائع للموت". تروي الأحداث قصة صحفي (حليم بن صادق) تدفعه مغامرة عاطفية فاشلة إلى الشعور بإحباط وخيبة عميقين يدفعانه إلى التفكير في الانتحار، حيث يشرع فعلا في هذا الأمر بعد أن هجرته حبيبته (نبيلة ميحانيك) لتتزوج أحد أصحاب الشكارة وما أكثرهم في واقعنا. وحتى تكون ذكراه أسطورية، يكتب حليم إلى نفسه رسالة يبين فيها أسباب انتحاره ويرسلها إلى نفسه في البريد، حيث قدر أنها لن تصله إلا بعد أسبوع من انتحاره في أحسن الأحوال. وهكذا ستتحدث عنه الصحافة مرتين، مرة بعد انتحاره، ومرة أخرى بعد وصول رسالته التي توضح أسباب موته، وكأنها بُعثت من قاع القبر أو حُملت على أجنحة الموت. إلا أن القدر تكون له ترتيبات أخرى تحول دون انتحار هذا الصحفي في نهاية الرواية، لينفتح باب الأمل أمامه من جديد.
تدور أحداث الرواية في بيئة شعبية حيث يغوص مضمونها في واقع الطبقات السفلى داخل المجتمع، أو ما يُطلق عليه في مصطلحات أقصى اليسار : الحُثالة، بما يشمل المخنثين/ المثليين (وإن كان هؤلاء لا يمثلون خصوصية بالنسبة إلى الهامش الاجتماعي) وأصحاب الزطلة، بل حتى سلوكيات المجانين أو من يراهم المجتمع هكذا. ولم يكن للكاتب بدٌ، وهو يدخل دهاليز باش جراح والكاليتوس المغرقة في الشعبية، من أن يمتلك الشجاعة على كسر الكثير من الطابوهات وعلى رأسها الثالوث المُحرم في المتن الروائي العربي والذي ما يزال متربعا على عرش المجتمعات العربية والإسلامية : الدين والسياسة والجنس.
ولعل من المفيد في هذا الصدد، الإشارة إلى أن التطرق النقدي للدين أو لممنوعات الفقيه بتعبير أدق، في المتن الروائي العربي، لا يرتبط بالنص الأول (القرآن الكريم) بقدر ما يرتبط بالنص الثاني أي نص الفقيه بما يشمل نصوص السُنة بعد تدوينها، والمنظومة الفقهية التي ارتبطت بها وكرست الكثير من الممارسات السلبية داخل المجتمع، من ذلك واقع المرأة حيث يبرز هذا الجانب في العلاقة الإشكالية بين (عمار الطونبا) و(نيسة بوتوس)، فعمار يحبها ويرغب في الزواج منها رغم معرفته بتاريخها الذي لا يراه المجتمع الظاهر/ مجتمع النهار مشرفا، بينما يراه مجتمع الباطن/ مجتمع الليل جميلا ورائعا لأنه يشبع رغباته المُحرمة والمكبوتة. والد عمار يرفض هذا الزواج بشدة لأنه كان على علاقة بنيسة في زمن مغامراته دون علم زوجته، كما هي حال الكثير من المتزوجين اليوم.
لكن موت الوالد يعيد الأمل إلى عمار الرجلاوي حتى النخاع، في الزواج من نيسة
التي تحب فيه ممارساته المازوشية معها، على رغم علمه أنها "تاع الناس الكل" منذ كانت تدرس في المرحلة المتوسطة، بل إنه يستشيط غضبا ويُهدد بالقتل كل من يجرؤ على ذكر تاريخها أمامه.
هل يجوز لعمار أن يتزوج من امرأة كان والده الراحل على علاقة غير شرعية بها ؟ لم يكن يشغله أمر العشرات الذين ناموا في فراش نيسة، بقدر ما كانت تهمه علاقة والده بالذات بهذه المرأة التي وجدت هي الأخرى نفسها تدفع فاتورة المكبوت الاجتماعي والمسكوت عنه ضمن الثالوث المحرم، حيث عاشت حياتها كلها تبحث عن والد لم تعرفه، ظنت أنها وجدته في معلمها، لكن هذا الأخير كان يرى فيها العشيقة المستقبلية، ولم يكن ينتظر سوى أن تكبر قليلا ليفعل فعلته، وهكذا كان.
المُعلم هنا ما هو إلا رمزٌ للسيطرة الذكورية التي لعبت ورقة المرأة بل تلاعبت بمصيرها لتحقيق مآربها في تكريس مجتمع ذكوري كل ما فيه يخدم مصالح الرجل على حساب المرأة، والأدهى من ذلك هو أن المرأة نفسها (أم نسية في الرواية) تعمل على تأبيد هذا الواقع من خلال تقديس الذكر/ المذكر وتدنيس الأنثى/ المؤنث، حيث نجد تفاعلا بين عناصر الثالوث المُحرم داخل النص، من أجل إنتاج وإعادة إنتاج مجتمع يُكرس التخلف ويعيد إنتاجه مع كل جيل. نيسة بوتوس واحدة من ضحايا ذلك المجتمع.
رجلاوية عمار هي الأخرى، تذكرنا بقصة ذلك الشخص الذي ذهب إلى الحانات يبحث عن شاهد زور يشهد معه في المحكمة فلم يجد، وقال له أحد رُواد الحانة : اذهب إلى المسجد فإنك حتما ستجد من يشهد معك.
من حيث البنية السردية، وظف الكاتب تقنية الفلاش باك وتداعي الأفكار أو ما يسمى تيار الوعي بشكل جيد، في لغة جزلة بسيطة ولكن جريئة أيضا، لا تكلف فيها ولا تقعر. وأتصور أن أكثر شخصيتين يمكن التعاطف معهما في الرواية هما عمار الطونبا ونيسة بوتوس، وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا : إنه لا عبقرية في "النورمال" أو ما يتعارف عليه الناس اليوم تحت اسم (الطبيعي والعادي)، أو هذا على الأقل ما يكاد النفسانيون أن يجمعوا عليه، حيث نلاحظ أن مصطلحات مثل "الطبيعي" و"العادي" أصبحت منذ الستينيات من القرن الماضي، تعيش فوق رمال متحركة تتقاذفها رياح النسبية. أفلا يكون من حق أمثال عمار الطونبا ونيسة بوتوس أن يصنعوا عبقريتهم وفرادتهم كلٌ على طريقته الخاصة ؟
من الممتع جدا القيام بتحليل نفسي لشخصيات الراوية لأنها تختزن في وعيها ولاوعيها المفردات الذهنية والواقعية للإنسان الجزائري المصاب بتلك الخيبة الكبرى وذلك الإحباط الفظيع وهما خيبة وإحباط الاستقلال المسروق أو الثورة المحولة/ النهر المحول بتعبير الراحل رشيد ميموني.
رد اعتبار لأبطال الهامش الاجتماعي
يوميات أبطال الهامش الاجتماعي
سعيد جاب الخير
صدرت عن الدار العربية للعلوم في بيروت ومنشورات الإختلاف في الجزائر، الرواية الثانية للزميل والكاتب سمير قسيمي تحت عنوان "يوم رائع للموت". تروي الأحداث قصة صحفي (حليم بن صادق) تدفعه مغامرة عاطفية فاشلة إلى الشعور بإحباط وخيبة عميقين يدفعانه إلى التفكير في الانتحار، حيث يشرع فعلا في هذا الأمر بعد أن هجرته حبيبته (نبيلة ميحانيك) لتتزوج أحد أصحاب الشكارة وما أكثرهم في واقعنا. وحتى تكون ذكراه أسطورية، يكتب حليم إلى نفسه رسالة يبين فيها أسباب انتحاره ويرسلها إلى نفسه في البريد، حيث قدر أنها لن تصله إلا بعد أسبوع من انتحاره في أحسن الأحوال. وهكذا ستتحدث عنه الصحافة مرتين، مرة بعد انتحاره، ومرة أخرى بعد وصول رسالته التي توضح أسباب موته، وكأنها بُعثت من قاع القبر أو حُملت على أجنحة الموت. إلا أن القدر تكون له ترتيبات أخرى تحول دون انتحار هذا الصحفي في نهاية الرواية، لينفتح باب الأمل أمامه من جديد.
تدور أحداث الرواية في بيئة شعبية حيث يغوص مضمونها في واقع الطبقات السفلى داخل المجتمع، أو ما يُطلق عليه في مصطلحات أقصى اليسار : الحُثالة، بما يشمل المخنثين/ المثليين (وإن كان هؤلاء لا يمثلون خصوصية بالنسبة إلى الهامش الاجتماعي) وأصحاب الزطلة، بل حتى سلوكيات المجانين أو من يراهم المجتمع هكذا. ولم يكن للكاتب بدٌ، وهو يدخل دهاليز باش جراح والكاليتوس المغرقة في الشعبية، من أن يمتلك الشجاعة على كسر الكثير من الطابوهات وعلى رأسها الثالوث المُحرم في المتن الروائي العربي والذي ما يزال متربعا على عرش المجتمعات العربية والإسلامية : الدين والسياسة والجنس.
ولعل من المفيد في هذا الصدد، الإشارة إلى أن التطرق النقدي للدين أو لممنوعات الفقيه بتعبير أدق، في المتن الروائي العربي، لا يرتبط بالنص الأول (القرآن الكريم) بقدر ما يرتبط بالنص الثاني أي نص الفقيه بما يشمل نصوص السُنة بعد تدوينها، والمنظومة الفقهية التي ارتبطت بها وكرست الكثير من الممارسات السلبية داخل المجتمع، من ذلك واقع المرأة حيث يبرز هذا الجانب في العلاقة الإشكالية بين (عمار الطونبا) و(نيسة بوتوس)، فعمار يحبها ويرغب في الزواج منها رغم معرفته بتاريخها الذي لا يراه المجتمع الظاهر/ مجتمع النهار مشرفا، بينما يراه مجتمع الباطن/ مجتمع الليل جميلا ورائعا لأنه يشبع رغباته المُحرمة والمكبوتة. والد عمار يرفض هذا الزواج بشدة لأنه كان على علاقة بنيسة في زمن مغامراته دون علم زوجته، كما هي حال الكثير من المتزوجين اليوم.
لكن موت الوالد يعيد الأمل إلى عمار الرجلاوي حتى النخاع، في الزواج من نيسة
التي تحب فيه ممارساته المازوشية معها، على رغم علمه أنها "تاع الناس الكل" منذ كانت تدرس في المرحلة المتوسطة، بل إنه يستشيط غضبا ويُهدد بالقتل كل من يجرؤ على ذكر تاريخها أمامه.
هل يجوز لعمار أن يتزوج من امرأة كان والده الراحل على علاقة غير شرعية بها ؟ لم يكن يشغله أمر العشرات الذين ناموا في فراش نيسة، بقدر ما كانت تهمه علاقة والده بالذات بهذه المرأة التي وجدت هي الأخرى نفسها تدفع فاتورة المكبوت الاجتماعي والمسكوت عنه ضمن الثالوث المحرم، حيث عاشت حياتها كلها تبحث عن والد لم تعرفه، ظنت أنها وجدته في معلمها، لكن هذا الأخير كان يرى فيها العشيقة المستقبلية، ولم يكن ينتظر سوى أن تكبر قليلا ليفعل فعلته، وهكذا كان.
المُعلم هنا ما هو إلا رمزٌ للسيطرة الذكورية التي لعبت ورقة المرأة بل تلاعبت بمصيرها لتحقيق مآربها في تكريس مجتمع ذكوري كل ما فيه يخدم مصالح الرجل على حساب المرأة، والأدهى من ذلك هو أن المرأة نفسها (أم نسية في الرواية) تعمل على تأبيد هذا الواقع من خلال تقديس الذكر/ المذكر وتدنيس الأنثى/ المؤنث، حيث نجد تفاعلا بين عناصر الثالوث المُحرم داخل النص، من أجل إنتاج وإعادة إنتاج مجتمع يُكرس التخلف ويعيد إنتاجه مع كل جيل. نيسة بوتوس واحدة من ضحايا ذلك المجتمع.
رجلاوية عمار هي الأخرى، تذكرنا بقصة ذلك الشخص الذي ذهب إلى الحانات يبحث عن شاهد زور يشهد معه في المحكمة فلم يجد، وقال له أحد رُواد الحانة : اذهب إلى المسجد فإنك حتما ستجد من يشهد معك.
من حيث البنية السردية، وظف الكاتب تقنية الفلاش باك وتداعي الأفكار أو ما يسمى تيار الوعي بشكل جيد، في لغة جزلة بسيطة ولكن جريئة أيضا، لا تكلف فيها ولا تقعر. وأتصور أن أكثر شخصيتين يمكن التعاطف معهما في الرواية هما عمار الطونبا ونيسة بوتوس، وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا : إنه لا عبقرية في "النورمال" أو ما يتعارف عليه الناس اليوم تحت اسم (الطبيعي والعادي)، أو هذا على الأقل ما يكاد النفسانيون أن يجمعوا عليه، حيث نلاحظ أن مصطلحات مثل "الطبيعي" و"العادي" أصبحت منذ الستينيات من القرن الماضي، تعيش فوق رمال متحركة تتقاذفها رياح النسبية. أفلا يكون من حق أمثال عمار الطونبا ونيسة بوتوس أن يصنعوا عبقريتهم وفرادتهم كلٌ على طريقته الخاصة ؟
من الممتع جدا القيام بتحليل نفسي لشخصيات الراوية لأنها تختزن في وعيها ولاوعيها المفردات الذهنية والواقعية للإنسان الجزائري المصاب بتلك الخيبة الكبرى وذلك الإحباط الفظيع وهما خيبة وإحباط الاستقلال المسروق أو الثورة المحولة/ النهر المحول بتعبير الراحل رشيد ميموني.
0 التعليقات:
إرسال تعليق