شتيوي الغيثي
ربما لا نجد تأصيلا تاريخياً حول مفهوم المواطنة أو الدولة في السياق العربي القديم كونه ببساطة مفهوماً حديثاً، وإن كان البعض حاولوا التأصيل للفكر السياسي العربي، ومن ضمنهم محمد عابد الجابري وذلك من خلال كتابه: (العقل السياسي العربي)، إلا أننا لا يمكن أن نستند على تلك المعطيات في تكوين مفهوم المواطنة في الفكر العربي حتى لو استندنا على ابن خلدون أو ابن رشد في تأصيل تاريخي سياسي للفكر العربي، فدولة الخلافة كانت من الضعف بمكان، حتى تعاقبت عليها الكثير من الدويلات التي سرعان ما تنهار لتحل محلها دويلات أخرى؛ حتى في العصر الذهبي للفكر العربي لم تكن الخلافة في الدولة الإسلامية كاملة: الراشدية، أو الأموية، أو العباسية إلا تعبيراً عن الدولة الثيوقراطية المركزية، ولعل أول ظهور وتداول لمصطلح الوطنية لدى رفاعة الطهطاوي فهو قد اعتبر المواطنة بالحقوق العامة بمعنى أن يتمتع الفرد بالحقوق التي تمنحها بلده له، "وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية... فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتميز بالمزايا البلدية..."، كما أنه حين يتحدث عن الحرية فإنه يشير إلى الحرية الدينية، "وهي حرية العقيدة والرأي والمذهب بشرط أن لا تخرج عن الدين..". وكما يؤكد بعض الباحثين، فإن هناك إشارات عديدة حول تشكل مفهوم المواطنة أو الوطنية كما يسميها لدى جمال الدين الأفغاني ولدى محمد عبده وخير الدين التونسي في أكثر من موضع على اختلاف بينهم في التصور والمفهوم ومدى ارتباطها بالقطر الذي يتحدث منه هؤلاء. وفيما بعد، وفي فترة وجيزة جداً، بدأ الحس القومي يظهر بجلاء لدى الكثير من المفكرين كان من أهمهم الكواكبي في التأصيل لفكرة المستبد العادل أو الاستبداد مع الاستنارة، وكذلك لدى رشيد رضا حيث اقترن الإسلام بالعروبة اقتراناً وثيقاً في الكثير من أطروحاتهم. وهذه الأفكار الأقرب إلى القومية أثرت في الأجيال اللاحقة لتؤسس إلى أعمال تحررية من الاستيطان أو الثورات العديدة على طول وعرض الأراضي العربية دون أن نجد تنظيرًا فكرياً لمفهوم المواطنة لدى هؤلاء الثوار؛ بل هو عمل سياسي قومي حركي ترتفع فيه الكثير من الشعارات والمناشير السياسية التي كان لها الأثر الكبير في شحن الجماهير العربية إلى المساندة في الاستقلال أو الثورة، أو لدى التيارات الإسلاموية، كما لا نجد للتيار الليبرالي العربي تأصيلاً مفاهيمياً للدولة الوطنية. لكن كما يحمد لكل هذه التيارات أو بعضها، أنها قادت البلاد إلى الاستقلال أيام الاستعمار خاصة، فقد أدت فيما بعد إلى احتراب داخلي وتناحر آيديولوجي مما أثر على مشاريع التنمية التي كان من المفترض أن تعمل عليها، مما يعني أن وعيا ملتبساً لدى الدول القطرية في التأسيس إلى كيان دولي متماسك، فما بين ازدواج الولاءات، أو تأرجحية الكيان السياسي كما هو تعبير محمد جابر الأنصاري، مما يشير ضمنياً إلى هلامية الدولة لدى أكثر هذه الكيانات السياسية.
ومع كثرة التأصيل إلى فكرة المواطنة في الفكر العربي الحديث، إلا أننا لا نكاد نجد اتفاقا محدداً حول مفهوم المواطنة لدى كافة الأطراف التي أخذت على عاتقها التأصيل للفكرة الوطنية، والاختلاف الكبير بين الكتابات التي تعرضت إلى مفهوم الدولة أو العقد الاجتماعي الرابط لأفراد المجتمع يؤكد هذه الفرضية التي افترضناها.
وحينما يتم الحديث عن الدولة الوطنية أو الاجتماع السياسي، فإن مقصودنا هنا ليس هو ذلك المعنى المتعارف عليه من قبل الكثير، والذي دائما ما يُطلق على الفعل السياسي في حقل سياسي معين، أو ممارسة سياسية محددة وما تتحقق من خلال هذه الممارسات من أهداف ومشاريع سياسية؛ وإنما المقصود هنا ذلك الفعل السياسي الذي يحقق الاجتماع المدني بين أفراد المجتمع الواحد في التكافل والتضامن والتواطن بحيث يصبح الجميع مواطنين لانضمامهم إلى المجتمع الذي تستمد النظم منه شرعيتها. فالدولة التقليدية لم تكن دولة مواطنة بالمفهوم الذي نسعى إلى تأصيله كون الفعل السياسي لديها يقوم على التمايز بين أبناء المجتمع الواحد.
ومع الاختلاف الكبير حول تحديد مفهوم المواطنة؛ إلا أنه يمكن الوصول إلى مفهوم عام من خلاله يتم رصد أو تحديد دولة المواطنة عن غيرها، وذلك بـ"اعتبار المشاركة الواعية لكل شخص دون استثناء ودون وصاية من أي نوع، في بناء الإطار الاجتماعي..."كما يقول برهان غليون، بمعنى إعطاء القيمة لمشاركة الأفراد في صياغة القرار، والتشريع للسلطة المدنية لأي اجتماع بشري، بحيث تتحقق الكثير من الموازنات بين إحقاق الحقوق وتحديد المسؤوليات من خلال قانون عام يتم الرجوع إليه في كل الأحوال.
وهناك من الباحثين من ربط مفهوم المواطنة على محصلات الثورة الفرنسية وإصدار الوثيقة المشهورة: "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" بالاعتماد على التمييز بين الإنسان والمواطن باعتبار الإنسان موجوداً ومتفاعلاً مع الطبيعة ولديه الكثير من الحاجات والمصالح والرغبات الطبيعية تتشكل من خلالها حقوق طبيعية: (حق حفظ النوع، حق التملك، حق الأمن، حق الحرية... إلخ) تفرض عليه الكثير من السلوكيات الطبيعية والبدائية أحياناً، في حين يتحول هذا الكائن من إنسان له حقوقه الطبيعية إلى مواطن في إطاره الاجتماعي بحيث تتأسس وفق هذا الإطار الحالة المدنية ذات المستلزمات السلوكية: الحقوق والواجبات. بمعنى آخر فالإنسان ذلك الكائن البيولوجي، والمواطن هو صاحب هوية اجتماعية، أو بالأصح، سياسية بالمفهوم العام لكلمة السياسة، وبهذا المعنى يصبح الكثير من الناس مواطنين بحكم انتمائهم للكيان السياسي الذي يعايشونه.
وتتسع الدائرة كلما حاولنا البحث عن المفهوم الذي من خلاله يتم تحديد الأطر الدقيقة لمفهوم المواطنة بحيث نستطيع إطلاق المفهوم على الدولة التي تتصف بصفات المواطنة؛ إذ يصبح القانون، أو كما جرت تسميته في عصر التنوير: (العقد الاجتماعي) هو الحكم الأخير في إحقاق المواطنة على أرض أي كيان سياسي ينتمي إليه الفرد، بغض النظر عن أي شكل من أشكال السلطة: إذ يمكن تحقيق المواطنة في كل أشكال السلطة مادامت تؤمن وتتحرك ضمن الإطار العام لحقوق الإنسان.
* كاتب سعودي
ربما لا نجد تأصيلا تاريخياً حول مفهوم المواطنة أو الدولة في السياق العربي القديم كونه ببساطة مفهوماً حديثاً، وإن كان البعض حاولوا التأصيل للفكر السياسي العربي، ومن ضمنهم محمد عابد الجابري وذلك من خلال كتابه: (العقل السياسي العربي)، إلا أننا لا يمكن أن نستند على تلك المعطيات في تكوين مفهوم المواطنة في الفكر العربي حتى لو استندنا على ابن خلدون أو ابن رشد في تأصيل تاريخي سياسي للفكر العربي، فدولة الخلافة كانت من الضعف بمكان، حتى تعاقبت عليها الكثير من الدويلات التي سرعان ما تنهار لتحل محلها دويلات أخرى؛ حتى في العصر الذهبي للفكر العربي لم تكن الخلافة في الدولة الإسلامية كاملة: الراشدية، أو الأموية، أو العباسية إلا تعبيراً عن الدولة الثيوقراطية المركزية، ولعل أول ظهور وتداول لمصطلح الوطنية لدى رفاعة الطهطاوي فهو قد اعتبر المواطنة بالحقوق العامة بمعنى أن يتمتع الفرد بالحقوق التي تمنحها بلده له، "وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية... فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتميز بالمزايا البلدية..."، كما أنه حين يتحدث عن الحرية فإنه يشير إلى الحرية الدينية، "وهي حرية العقيدة والرأي والمذهب بشرط أن لا تخرج عن الدين..". وكما يؤكد بعض الباحثين، فإن هناك إشارات عديدة حول تشكل مفهوم المواطنة أو الوطنية كما يسميها لدى جمال الدين الأفغاني ولدى محمد عبده وخير الدين التونسي في أكثر من موضع على اختلاف بينهم في التصور والمفهوم ومدى ارتباطها بالقطر الذي يتحدث منه هؤلاء. وفيما بعد، وفي فترة وجيزة جداً، بدأ الحس القومي يظهر بجلاء لدى الكثير من المفكرين كان من أهمهم الكواكبي في التأصيل لفكرة المستبد العادل أو الاستبداد مع الاستنارة، وكذلك لدى رشيد رضا حيث اقترن الإسلام بالعروبة اقتراناً وثيقاً في الكثير من أطروحاتهم. وهذه الأفكار الأقرب إلى القومية أثرت في الأجيال اللاحقة لتؤسس إلى أعمال تحررية من الاستيطان أو الثورات العديدة على طول وعرض الأراضي العربية دون أن نجد تنظيرًا فكرياً لمفهوم المواطنة لدى هؤلاء الثوار؛ بل هو عمل سياسي قومي حركي ترتفع فيه الكثير من الشعارات والمناشير السياسية التي كان لها الأثر الكبير في شحن الجماهير العربية إلى المساندة في الاستقلال أو الثورة، أو لدى التيارات الإسلاموية، كما لا نجد للتيار الليبرالي العربي تأصيلاً مفاهيمياً للدولة الوطنية. لكن كما يحمد لكل هذه التيارات أو بعضها، أنها قادت البلاد إلى الاستقلال أيام الاستعمار خاصة، فقد أدت فيما بعد إلى احتراب داخلي وتناحر آيديولوجي مما أثر على مشاريع التنمية التي كان من المفترض أن تعمل عليها، مما يعني أن وعيا ملتبساً لدى الدول القطرية في التأسيس إلى كيان دولي متماسك، فما بين ازدواج الولاءات، أو تأرجحية الكيان السياسي كما هو تعبير محمد جابر الأنصاري، مما يشير ضمنياً إلى هلامية الدولة لدى أكثر هذه الكيانات السياسية.
ومع كثرة التأصيل إلى فكرة المواطنة في الفكر العربي الحديث، إلا أننا لا نكاد نجد اتفاقا محدداً حول مفهوم المواطنة لدى كافة الأطراف التي أخذت على عاتقها التأصيل للفكرة الوطنية، والاختلاف الكبير بين الكتابات التي تعرضت إلى مفهوم الدولة أو العقد الاجتماعي الرابط لأفراد المجتمع يؤكد هذه الفرضية التي افترضناها.
وحينما يتم الحديث عن الدولة الوطنية أو الاجتماع السياسي، فإن مقصودنا هنا ليس هو ذلك المعنى المتعارف عليه من قبل الكثير، والذي دائما ما يُطلق على الفعل السياسي في حقل سياسي معين، أو ممارسة سياسية محددة وما تتحقق من خلال هذه الممارسات من أهداف ومشاريع سياسية؛ وإنما المقصود هنا ذلك الفعل السياسي الذي يحقق الاجتماع المدني بين أفراد المجتمع الواحد في التكافل والتضامن والتواطن بحيث يصبح الجميع مواطنين لانضمامهم إلى المجتمع الذي تستمد النظم منه شرعيتها. فالدولة التقليدية لم تكن دولة مواطنة بالمفهوم الذي نسعى إلى تأصيله كون الفعل السياسي لديها يقوم على التمايز بين أبناء المجتمع الواحد.
ومع الاختلاف الكبير حول تحديد مفهوم المواطنة؛ إلا أنه يمكن الوصول إلى مفهوم عام من خلاله يتم رصد أو تحديد دولة المواطنة عن غيرها، وذلك بـ"اعتبار المشاركة الواعية لكل شخص دون استثناء ودون وصاية من أي نوع، في بناء الإطار الاجتماعي..."كما يقول برهان غليون، بمعنى إعطاء القيمة لمشاركة الأفراد في صياغة القرار، والتشريع للسلطة المدنية لأي اجتماع بشري، بحيث تتحقق الكثير من الموازنات بين إحقاق الحقوق وتحديد المسؤوليات من خلال قانون عام يتم الرجوع إليه في كل الأحوال.
وهناك من الباحثين من ربط مفهوم المواطنة على محصلات الثورة الفرنسية وإصدار الوثيقة المشهورة: "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" بالاعتماد على التمييز بين الإنسان والمواطن باعتبار الإنسان موجوداً ومتفاعلاً مع الطبيعة ولديه الكثير من الحاجات والمصالح والرغبات الطبيعية تتشكل من خلالها حقوق طبيعية: (حق حفظ النوع، حق التملك، حق الأمن، حق الحرية... إلخ) تفرض عليه الكثير من السلوكيات الطبيعية والبدائية أحياناً، في حين يتحول هذا الكائن من إنسان له حقوقه الطبيعية إلى مواطن في إطاره الاجتماعي بحيث تتأسس وفق هذا الإطار الحالة المدنية ذات المستلزمات السلوكية: الحقوق والواجبات. بمعنى آخر فالإنسان ذلك الكائن البيولوجي، والمواطن هو صاحب هوية اجتماعية، أو بالأصح، سياسية بالمفهوم العام لكلمة السياسة، وبهذا المعنى يصبح الكثير من الناس مواطنين بحكم انتمائهم للكيان السياسي الذي يعايشونه.
وتتسع الدائرة كلما حاولنا البحث عن المفهوم الذي من خلاله يتم تحديد الأطر الدقيقة لمفهوم المواطنة بحيث نستطيع إطلاق المفهوم على الدولة التي تتصف بصفات المواطنة؛ إذ يصبح القانون، أو كما جرت تسميته في عصر التنوير: (العقد الاجتماعي) هو الحكم الأخير في إحقاق المواطنة على أرض أي كيان سياسي ينتمي إليه الفرد، بغض النظر عن أي شكل من أشكال السلطة: إذ يمكن تحقيق المواطنة في كل أشكال السلطة مادامت تؤمن وتتحرك ضمن الإطار العام لحقوق الإنسان.
* كاتب سعودي
0 التعليقات:
إرسال تعليق