الاثنين، 12 أبريل 2010

المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية



هبة رؤوف

د.هبة رؤوف
د.هبة رؤوف
تُعَدُّ "المواطنة" أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر كنسق للأفكار والقيم، ثم تطبيقه في الواقع الغربي في المجالين الاقتصادي والسياسي في القرنين التاليين، وما ترتب على ذلك من آثار على الترتيبات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في القرن العشرين ثم مطلع قرننا هذا.
وإذا كانت الليبرالية عند نشأتها قد دارت حول فكرة الحرية الفردية والعقلانية وتقوية مركز الفرد في مجتمع سياسي قام على قواعد عصر النهضة على أبنية اجتماعية حاضنة وقوية، فإن مفهوم المواطنة قد تطور وتحوّر عبر مسيرة الليبرالية ليتركز حول خيارات الفرد المطلقة وهواه كمرجع للخيارات الحياتية والسياسة اليومية في دوائر العمل، والمجتمع المدني، والمجال العام، ووقت الفراغ، وليصبح "المفهوم المفتاح" الذي لا يمكن فهم الليبرالية وجوهرها دون الإحاطة بأبعاده المختلفة وتطوراته الحادثة المستجدة، حيث يستبطن تصورات الفرد، والجماعة، والرابطة    السياسية، ووظيفة الدولة، والعلاقات الإنسانية، والقيم والأخلاق.
عودة المواطنة
وقد شهد هذا المفهوم تغيرات عديدة في مضمونه واستخدامه ودلالته، فلم يعد فقط يصف العلاقة بين الفرد والدولة في شقها السياسي القانوني كما ساد سابقاً، بل تدل القراءة في الأدبيات والدراسات السياسية الحديثة على عودة الاهتمام بمفهوم "المواطنة" في حقل النظرية السياسية بعد أن طغى الاهتمام بدراسة مفهوم "الدولة" مع نهاية الثمانينيات، ويرجع ذلك لعدة عوامل، أبرزها الأزمة التي تتعرض لها فكرة الدولة القومية التي مثلت ركيزة الفكر الليبرالي لفترة طويلة؛ وذلك نتيجة عدة تحولات شهدتها نهاية القرن العشرين:
أولها: تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم، وتفجر العنف بل والإبادة الدموية، ليس فقط في بلدان لم تنتشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث بل أيضاً في قلب العالم الغربي أو على يد قواه الكبرى، بدءاً من الإبادة النازية لجماعات من اليهود، ومروراً بالإبادة النووية في هيروشيما، ومؤخراً الإبادة الصربية للمسلمين، والإبادة الأمريكية للعراقيين وللأفغان، والإبادة الجارية للفلسطينيين.
وثانيها: بروز فكرة "العولمة" التي تأسست على التوسع الرأسمالي العابر للحدود وثورة الاتصالات والتكنولوجيا من ناحية أخرى، والحاجة لمراجعة المفهوم الذي قام على تصور الحدود الإقليمية للوطن والجماعة السياسية وسيادة الدولة القومية، وكلها مستويات شهدت تحولاً نوعياً.
وعلى صعيد آخر فإن نمو الاتجاهات الأصولية المسيحية واليمينية المتطرفة في البلدان التي مثلت مهد التجربة الليبرالية قد أدى إلى مراجعة المفهوم والتأكيد على محوريته لمواجهة هذه الأفكار وآثارها في الواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعقد مع وجود أقليات عرقية ودينية منها العرب والمسلمون، هذا فضلاً عن وصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع الليبرالي، بعد أن أدى التطرف في ممارستها وعكوف الأفراد على ذواتهم ومصالحهم الضيقة إلى تهديد التضامن الاجتماعي الذي يمثل أساس وقاعدة أي مجتمع سياسي، وتراجع الاهتمام بالشأن العام لصالح الشأن الخاص، وتنامى ما يسميه البعض "موت السياسة" وبروز "سياسات الحياة اليومية".
نهاية التاريخ
والإشكالية التي تهم العقل العربي والمسلم في هذا الصدد هي أن الفكر الليبرالي لم يؤدِّ إلى تأسيس تجارب ديمقراطية في العالم الغربي فقط، بل يطرح نفسه الآن وبشكل شبه منفرد كبديل للواقع السياسي والفكري في دول العالم الثالث التي تشهد تحولاً نحو الديمقراطية، كما في أطروحة "نهاية التاريخ" وإعلان انتصار الليبرالية النهائي لباحث مثل فوكوياما، أو كطرف متماسك ومتجانس ومتقدم في مقابل حضارات أخرى (أو أدنى) في أطروحة مثل "صراع الحضارات" لهنتنجتون. فخيار المواطنة صار مثالية تروج لها الرأسمالية الليبرالية في الدول غير الغربية، ويتم تقديمها كحل لمشكلات الجنوب "على طريق التقدم" يرتهن بتحول الرابطة السياسية داخل مجتمعاتها من رابطة تراحمية عضوية أو قرابية -ريفية أو قَبَلية- إلى رابطة تعاقدية علمانية و"مدنية" للمواطنة؛ لذا فإن فهم دلالات "المواطنة" كرابطة تزعم أنها تجبّ روابط الدين والعرقية والأيدلوجية لَهُو أمر يحتاج مزيد تأمل وتقص، وتحريرا وتقويما، واختبارا في الواقع التاريخي بين النجاح والإخفاق.
من المواطن الرشيد للمواطن المستهلك
لقد أدت التطورات السالفة الذكر التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة إلى تركيز بعض الدراسات على ظواهر وأحداث كان لها أكبر الأثر في تغيير مفهوم المواطنة ليشمل أبعادًا جديدة . فكتابات النظرية السياسية الليبرالية الأولى التي كان مفهوم العقلانية والرشد فيها مرتبطًا بالقيم المثالية والفلسفية ما لبثت أن تناولت مفهوم المنفعة بمعنى ذاتي/ نفسي ثم بمعنى اقتصادي/ مادي، وربطت في مجملها بين المفاهيم النظرية السياسية والرؤى الاقتصادية وهو ما أسماه البعض بالتحول من الديمقراطية الليبرالية إلى الليبرالية الديمقراطية بتقديم الاقتصادي على السياسي وغلبة المادية على الفكر الليبرالي. وما لبث الاقتصاد الليبرالي أن تحول من ليبرالية كلاسيكية تتحفظ على تدخل الدولة لليبرالية جديدة تؤكد على تدخل الدولة من أجل تحقيق الرفاهة في مجالات الأمن الاجتماعي. وهكذا صارت رابطة "المواطنة" منافع وحقوقا مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم تهبط بالحقوق العامة السياسية لتفاصيل منافع مادية مباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني مزيدا من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الاتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم -المادية والمعنوية- وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلا في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance) عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما على شتى المستويات.
وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسساً على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي، رغم تحول هذا الوجود نوعياً وتغير وجهه وتجلياته بما أوحى للبعض بضعفها أو تراجع دورها لصالح آليات السوق العالمي، وهو ظن غير دقيق.
هذا التناقض توازى أيضاً مع بروز تيارين متعارضين:
أولهما: واقعي، يرتبط بالتأكيد المتنامي على المصلحة المباشرة (الآن وهنا) ويهمش المثاليات الكبرى والمنافع الجماعية والمؤجلة (التي انبنت عليها نهضة الرأسمالية الأولى).
ثانيهما: تنويري، يتمثل في مناداة بعض الكتابات بإدخال البعد الأخلاقي في النظرية الاقتصادية، أي تجاوز الاقتراب الاقتصادي المادي النفعي لفهم السلوك الإنساني وتفسيره والتنبؤ به، واستعادة الأبعاد الإنسانية/ الاجتماعية/ الأخلاقية في النظرية والتحليل الاقتصادي، وهو ما يستلزم ربط مفهوم المواطنة عند تحليله بالأسئلة الكلية في الفكر الليبرالي، وأبرزها تصورات الفرد وتعريف السياسة وما يترتب على ذلك من تصور لطبيعة المجتمع السياسي. كذلك فإنه على الرغم من تناول العديد من الكتابات الليبرالية المعاصرة للتغيرات التي تتعرض لها المجتمعات الليبرالية في المجالات الاقتصادية والتقنية واستخدام مصطلحات جديدة تصف المجتمع والدولة في الواقع الليبرالي، مثل "مجتمع ما بعد الصناعة" أو "الدولة المتسعة" أو "الرأسمالية في شكلها الأخير" واختلاف مفهوم "القوة" في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي وما لذلك من انعكاس على مفهوم السيادة -فإن الباحث نادراً ما يجد دراسة تقدم رؤية بانورامية للتحول الذي تم وتفسره بدلاً من أن تكتفي بوصفه وحسب. ولعل من أبرز الكتابات باللغة العربية الرائدة في هذا الاتجاه كتابات الاقتصادي المصري الفقيد الراحل أ.د. رمزي زكي.
مساحات جديدة ومسافات فكرية واسعة
 المواطنة..أسئلة حائرة
مع تنامي عولمة الرأسمالية وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة لم يعد ما نحن بصدده عند الحديث عن المواطَنَة هو المفهوم البسيط، ولا بقي السؤال هو: مواطنة أم لا مواطنة؟ على غرار : نهضة أم تخلف؟ حضارة أم ضد الحضارة؟ (أسئلة اللحظة التاريخية الأمريكية الراهنة).
الواقع أكثر تعقيداً من ذلك وهذه التصورات مضللة.. ومضلّة.
أي مواطنة؟ هذا هو سؤال اللحظة الوجودية الإنسانية الحقيقي: مواطنة تنويرية تحترم الفرد وتؤسس مجتمعاً يكتسب وجوده الجمعي من تجاوزه لقوى الطبيعة وتصوره الإنساني للإنسان، أم مواطنة رأسمالية مدينية مابعد حداثية؟
مواطنة قانونية شكلية متساوية ذات بعد واحد، أم مواطنة مركبة عادلة اجتماعية ديمقراطية ثقافية في ظل مشروع حضاري إنساني؟
مواطنة تتحدث عن الحرية والمساواة والجسد السياسي والعدل والشورى، أم مواطنة تتحدث عن اختزال القيم السياسية في حرية الجسد وتفكيك المجتمع لصالح نوع ضد نوع أو ثقافة ضد ثقافة ونفي التجاوز في الإنسان والتاريخ، وإعلاء سياسات الجسد واللذة على الجسد السياسي والخير العام والقيمة الإنسانية؟
مواطنة في أي سياق مكاني؟ مواطنة التنوير والليبرالية في المدن الاجتماعية ذات الطابع الثقافي والمسافات الإنسانية، أم مواطنة المدن الرأسمالية العالمية السرطانية المعادية للمجتمع والقائمة على "التجمع" الذي يحسب حسابات الاقتصاد وتدويله قبل حسابات الهوية والجماعة والثقافة؟
ثم أخيرًا، مواطنة التدافع من أجل الغايات الإنسانية والنفع العام والسعي في دروب التطور الاجتماعي التاريخي، أم مواطنة اللحظة المتخيلة في تفاعل الشبكة الاتصالية الفردي التي تعيد تشكيل الوعي بالذات والهويات والأنا والآخر والـ"نحن"، وتعيد تشكيل مفاهيم الزمن والمكان بدون محتوى اجتماعي تفاعلي كما عرفته البشرية، وتعيد تشكيل حدود الخاص والعام وتهدد مفهوم المواطنة في كل تصوراته السابقة؟
هذه هي الأسئلة وتلك هي مساحات الاجتهاد والجهاد.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الساعة بتوقيت الجزائر تشير الى

 

Copyright 2008 All Rights Reserved | الجزائر للسياحة Designed by Bloggers Template | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة