الاثنين، 3 مايو 2010

مداخلة الاستاذ المحامي الاخضر فنغور في الجلسة التاسعة لمنتدى المواطنة . تعديلات قانون المرور بين الخلفيات القانونية والأهداف



 تقرير خاص :منتدى المواطنة .
بقلم كمال قرور
إننا حين نتكلم عن التعديلات التي طرأت على الأحكام التي تضمنتها قوانين المرور، فإننا لا يمكننا أن نتطرق إلى جميعها منذ الاستقلال، فهي كثيرة حتى في تغيير العناوين بتغير الخلفيات والأهداف التي سطرت هذا القانون أو ذاك، وبالرغم من كل ذلك فقد تعودنا على اصطلاحنا على أن نسميه بـ "قانون المرور" وتم التوافق على ذلك لأن هذه التسمية هي التي يمكن أن تكون حيادية، وحين نأخذ بها الآن في موضوعنا هذا فلأننا نأمل أن نكون موضوعيين في شرحنا وخاصة حين يتعلق الأمر بإبداء آرائنا ونحن نستعرض التعديلات الحالية أساسا والسابقة اضطرارا بشيء من التحليل، الذي قد يتجاوز بنا التحليل القانوني إلى الاجتماعي وإلى ما هو سياسي واقتصادي.

في البدء لا بد أن نشير إلى أن التعديل الصادر بالأمر رقم 03 - 09 المؤرّخ في 22 يوليو سنة 2009 قد قام، بإلغاء الأحكام التي كانت تحمِّل السائق المسؤولية، بدلا من الراكب جنبه عندما لا يضع هذا الأخير حزامَ الأمن. وهذا نظرا لكل جهود الذين ساهموا، في الضغط على السلطة الحاكمة بذلك في إنقاذ الجزائري من مغبة تطبعه بطبعه على قبول المذلة والانبطاح إلى الآخر وصيا عليه وصاية السادة على العبيد كما أراد أن يفعل بنا الإسلاميون بين الثمانينات وبداية التسعينات.
وكان صدور هذا التعديل بالتأكيد استجابة لضغوطات مجموعة من الجزائريين الأحرار الذين بقوة نفوذهم وعلاقاتهم المتشعبة أجبروه على التراجع عن الفعل الخطير جدا، والذي كان يمهد ليصير الجزائري غير معني بمفهوم المواطنة الذي على الأقل استطاعت مجموعة من الجزائريين المستنيرين والغيورين على شرف ذاتهم الإنسانية أن يفجروا ثورة نوفمبر الوطنية لأن المستعمر لم يكن يعترف بحق المواطنة للجزائريين (Les Arabes) كما كانوا يسمونهم، وعلى العكس من ذلك اعترف بها لمن يشاركهم الجزائر موطنا من الأوروبيين الذين جاؤوها مغامرين ليستوطنوا أرضا أشيع لديهم بأنها بلا شعب، ومنح اليهود ذوي الأصول الجزائرية نفس حقوق الأوروبيين، فما استقر بهم المقام وهاجروها بعد ألفي سنة من استقبالها لهم بعد أن أعادوا فعلتهم التي شردتهم عن وطنهم الأصلي وهذه المرة خانوا إخوانهم الجزائريين بدل منقذهم النبي عيسى عليه السلام، ولا أتكلم هنا عن أولئك من اليهود وغيرهم ممن وقفوا موقفا مشرفا مع الثورة فاحتضنهم الوطن بامتياز إلى أن فارقوا الحياة. فليتمتع على الأقل اليوم الجزائري الراشد بانتصاره في إثبات حقه كمواطن في تحمُّل مسؤوليته وهو يخالف القانون وألا يجعل غيره وصيا عليه فيكون وفيا لأرواح المليون والنصف المليون من الشهداء. راجع موضوعنا (مدى دستورية قانون المرور الجزائري). (قراءة في مدى دستورية قرار الوالي بتعليق وسحب رخصة السياقة Tفي القانون الجزائري)
وعليه فإننا حين ننظر في هذه التعديلات نجدها أساسا قد شملت الفصل السادس الذي تم استبداله كلية بمواد جديدة لا صلة لها بالمواد التي وردت في تعديلات سنة 2004 التي جاء بها القانون 04-16، غير أننا نجدها تتفق مع هذه الأخيرة في أنهما مخالفتان لأحكام الدستور الجزائري وأن كل ما في الأمر أن المشرع قد أراد أن يوهم القانونيين بأنه قد ألغى الأحكام غير الدستورية وبأنه قد جعل القضاء هو السيد في الاختصاص المخول له دستوريا، وسنرى أن ذلك لم يكن إلا وهما. والصحيح فقط أنه قام حقيقة بإلغاء أحكام حزام الأمن ولكنه عوض ذلك برفع الغرامات المالية إلى حد يجعل ممتهني السياقة في حيرة من أمرهم ومعرضين للخوف من تجويع عائلاتهم في كل يوم عمل يمر عليهم.
من بين ما يؤكد محاولة إيهامنا بأن التعديلات الجديدة قد أخذت بعين الاعتبار ما أُخِذ على سابقتها من أنها غير دستورية، هو إيراد مصطلح جديد يتمثل في: "الاحتفاظ" كبديل لمصطلح "السحب" هذا الأخير الذي يعني بالضرورة تعليق رخصة السياقة وعدم قدرة المخالف على السياقة تلقائيا إلا إذا تم النص على عكس ذلك صراحة ضمن نفس القانون أما المصطلح الجديد فعكسه تماما لأن "الاحتفاظ" لا يدُلُّ أبدا على عدم قدرة المخالف على السياقة بارتكاب المخالفة إلا إذا نص القانون على ذلك صراحة، فهو يعني فقط أن يترك المخالف بطاقة رخصة السياقة محجوزةً لدى عون الأمن ويسترجعها بعد قيامه بتسديد الغرامة. ونذكر هنا أن طريقة الحتفاظ برخصة السياقة قد كان معمولا بها لدى جهاز الشرطة وحده قبل صدور تعديلات 2004 ، دون أن يعملَ بها جهاز الدرك الوطني لأن مصدر العمل بتلك الإجراءات، حسب ما أعرف، هو وثيقة قانونية داخلية صادرة عن مصالح وزارة الداخلية، ولا ترقى لمستوى القانون. وقد ارتقُيَ بهذا الإجراء ليصبح قانونا، وهذا لتعميمه للعمل به داخل جهاز الدرك الوطني أيضا. ففي المادة الثامنة إلى جانب مصطلحي التعليق والإلغاء الذين كانا موجودين في القانون من قبلُ وبالضبط، منذ تعديلات 2004 تقول المادة الثامنة مكرّر:
“يمكن أن تكون رخصة السياقة محل احتفاظ أو تعليق أو إلغاء وفق الأشكال ا لمقررة بموجب أحكام هذا القانون"
فالاحتفاظ برخصة السياقة قد صار من صلاحيات أعوان الأمن جميعا في حالة ارتكاب السائق مخالفة ما، ويختلف الاحتفاظ بها وآثاره ونتائجه عن السحب أو التعليق من حيث المدة فقط ففي بعض المخالفات يكون الاحتفاظ برخصة السياقة لمدة عشرة أيام و في البعض الآخر لمدة ثمانية وأربعين ساعة، وفي المخالفة من النوعين التي تتصل بحادثة تشكل جنحة فإن رخصة السياقة ترسل إلى الجهة القضائية المختصة.
و الفارق الأساسي بين النوعين من المخالفات هو أنه في النوع الأول يستطيع أن يسترجع السائق رخصة السياقة في حالة دفعه للحد الأدنى للغرامة الجزافية، خلال مدة عشرة أيام والاحتفاظ بها لا يُفقدهُ القدرة على السياقة، غير أنه إذا لم يتم الدفع ضمن هذا الأجل فالغرامة يتم رفعها إلى حدها الأقصى حسب ما تنص عليه نفس المادة في فقرتها الخامسة (05):
"ومع انقضاء هذا الأجل، وفي حالة عدم دفع الغرامة الجزافية بحدها الأدنى، يرفع مبلغ الغرامة الجزافية بحدها الأقصى"
ونفهم مما جاء في نفس الفقرة من المادة 93 أن العقوبة تشدد على المخالف، بمثل ما هو منصوص عليه في قانون الإجراءات الجزائية، ولكن الأمر غير الدستوري هو أن يصبح دفع الغرامة الجزافية ولو بحدها الأقصى غير مجد لتلافي عقوبة التعليق لمدة شهرين فتنتهي الفقرة بالقول:
"... ... وتقوم لجنة التعليق المختصة بتعليق رخصة السياقة لمدة شهرين"
ونفهم من هذه المادة أن التعليق لمدة شهرين واقع لا محالة من طرف اللجنة باعتمادها على محضر الضبطية القضائية عوض الاعتماد على حكم قضائي باعتبارها جهة إدارية، وبهذا يكون عملها غير دستوري لأنها حلت محل القاضي.
أذْ نلاحظ أن دور القضاء يأتي مكملا أو هامشيا ومهمته تثبيت الغرامة الجزافية عن طريق حكم قضائي، إذا تمادى المخالف بعد تنفيذ الحكم الإداري عليه في عدم تسديده الغرامة بحدها الأقصى فيتم إرسال المحضر إلى الجهة القضائية المختصة، ليتم استعمال القضاء في هذه الحالة كوسيلة حتى تتمكن السلطة من تحصيل الغرامة الجزافية لا غير والتي يعتبر استيفاء مبلغها من قبل خزينة السلطة، في رأينا هو الأساس بالنسبة للمشرع في كل هذه التعديلات، ولنبرر قولنا هذا نذكر بأن السلطة تبقى عاجزةً عن تحصيل الغرامة الجزافية المنصوص عليها في المواد من 381 إلى 393 من قانون الإجراءات الجزائية ، فالغرامة الجزافية لا تصبح قابلة للتنفيذ إلا إذا صدر فيها حكم قضائي أو قام المخالف بتسديدها اعترافا منه بارتكابه المخالفة، ولو كان معترفا في أغلبية الحالات فإنه يدفعها في الأجل الذي يثبت جواز المصالحة بحدها الأدنى، أما الحد الأقصى فهو حين لا يعترف المخالف بالصلح ويرسل ملفه إلى القضاء.
ونرى أن المشرع قد استبدل حلول عون الأمن في التعديلات السابقة بالقاضي وفي هذه التعديلات بنفسه فأضحى المشرع هو المحدد للعقوبة إذا لم يدفع المخالف الغرامة في ظرف 10 أيام، فنراه قد حدد مدة تعليق رخصة السياقة بشهرين من قبل لجنة التعليق، في صياغة لا تمنحها إطلاقا حق التصرف في تخفيض المدة، ويبقى لها فقط أن تنظر في شيء واحد وهو إذا ما كان المخالف قد احتج أنه قد دفع الغرامة الجزافية قبل انتهاء المدة بالوسائل القانونية طبعا، فتحكم بحقه في استرجاع رخصة السياقة. إذن فهذه اللجنة ليس لها السلطة التقديرية في درجة العقوبة فقد حددها المشرع بدلا من أن يَترك هذه الصلاحية لمن يُصدر الحكم، حتى ولو لم يكن هو ذاته دستوريا في عمله في مثل هذه الحالة، ومن ثم ضاع مبدأ الفصل بين السلطات الذي يحاول الدستور تكريسه.
ونأتي على المادة رقم 94 التي بعدها فنجدها في الحقيقة لا تختلف عما جاء في تعديل 2004 في ما يخص سماحها بتهميش القضاء بشكل واضح، لمصلحة الإدارة، فَيُمعِن المشرع في مخالفة الدستور موهما الرأي العام بغير ذلك، ونرى ذلك بعد أن أصبح عون الأمن معلِّقا لرخصة السياقة وليس محتفظا بها فقط وإن بشكل غير فوري ولكن بعد ثمانية وأربعين ساعة من ارتكاب المخالفة، سواءً دفع المخالف الغرامة الجزافية بحدها الأدنى أم لا وهكذا فقد تفادى مشاكل أخرى قد تعترض السلطات البلدية أو الولائية التي يتم تعليق رخصة السياقة في إقليمها، إذ ستكون ملزمة بنقل المركبة التي ارتكبت بها المخالفة، إلى المحشر إذا تركها سائقها في مكان قد يعرقل حركة المرور، أو يسيء لمنظر سياحي مهم. ويُظهِر المشرع نفسه وكأنه قد كان رحيما بالمخالف وهو لا يوقف القدرة على السياقة أثناء الاحتفاظ لمدة ثمانية وأربعين ساعة إذْ أعطاه القدرة لإيصال السيارة أو الشاحنة بنفسه إلى مرأبها. ولكن إذا حدث ومضت مهلة 48 ساعة فسيصبح المخالف في حالة جريمة السياقة بدون رخصة فماذا يحصل لو لم يصل إلى بيته أو الحظيرة التي يركن فيها السيارة أو الشاحنة وقد انقضت المهلة. وحين نورد هذه الأمثلة فإننا نتكلم عن التأمل في عدم احترام المنطق أثناء وضع القانون سواء تعلق الأمر بالمنطق الاجتماعي أو المهني أو الجغرافي مع ذلك الذي تفرضه التكنلوجيا فقد نجد بالنسبة لبعض أنواع المركبات الثقيلة الوزن بالنظر إلى السرعة المفروضة عليها وضرورة راحة سائقها أنه من المستحيل وصولها في ظرف 48 إلى المكان المرغوب فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة السائق في تسديد الغرامة بحدها الأدنى، فقد لا يكون السائق هو صاحب المركبة افتراضا فيعطي لنفسه الوقت كي يتفادى تسديد الغرامة بحدها الأقصى ولا يهمه كفاية الوقت والإمكانيات عموما لإرجاع المركبة إلى الحظيرة، لما يعرف أن رخصة السياقة مسحوبة منه لا محالة لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر فمن المستحيل حينها أن يحتفظ بمنصبه لدى رب العمل، وحينها فما على رب العمل إلا أن يتكفل على مسؤوليته بنقل المركبة إلى المكان المأمول، فنكون هنا بصدد تعطيل آلة منتجة ونعرقل بتعدد الحالات وتنوعها السير الحسن للآليات الاقتصادية.
وإضافة إلى ما سبق يرسل المحضر إلى لجنة تعليق رخص السياقة بشكل مباشر، لتتعامل مع الملف بما يشبه عمل القاضي تماما في هذه المرة فلها السلطة التقديرية كما هي للقاضي فقد جاءت المادة 96 لتورد تعدادا للعقوبات المتعلقة بالمخالفات المذكورة بالمادة 66 الواردة، وأظنها تطبق من طرف لجنة التعليق كما تطبق من قبل القاضي الذي تصل القضية أمامه كما هو مبين في المادة 94 أي بعد أن يعاقب المخالف بتعليق رخصة السياقة بعد 48 ساعة من ارتكابه للمخالفة حتى ولو سدد الغرامة بحدها الأدنى، ونرى هنا أن عمل القاضي هو الذي أصبح مكملا لعمل الإدارة وليس العكس كما اعتدنا عليه قانونا في المسائل الجزائية، ودستوريا في ضرورة الفصل بين السلطات وعدم اعتداء أي منها على الأخرى ونذكر هنا المادة 146 من الدستور التي تنص على أنه:
"يختص القضاة بإصدار الأحكام"
وليس عون الأمن أو الوالي بترؤسه للجنة تعليق رخصة السياقة. ويعتبر أيضا في قانون العقوبات مرتكبا لجريمة تجاوز السلطات كلُّ مسؤول تعدى الصلاحيات المخولة له بموجب السلطة التي يعمل تحت غطائها، فقام مقام سلطة أخرى، كأن يحل القاضي أو المسؤول الإداري محل السلطة التشريعية. كما هو منصوص عليه في المواد 116 و 117 و 118 من قانون العقوبات. فما بال المشرع يحرض الجميع على مخالفة القوانين التي يضعها ويخول لنفسه هو بالذات فعل ذلك.
وقد يتساء أحدهم لماذا يعتبر دستوريا تسديد المخالف الغرامة الجزافية تنفيذا لمحضر عون الأمن، ويعتبر ذلك دستوريا ونرفض سحب رخصة السياقة أو تعليقها، فأوضح هنا أن القانون قد قرر إمكانية التصالح بين الدولة التي يمثلها عون الأمن، فتعطي الفرصة للمخالف أن يدفع الغرامة الجزافية بحدها الأدنى، وإذا رفض ذلك فإنه قد رفض معتبرا أنه لم يكن مقتنعا باتهامه ارتكاب المخالفة، فيتم رفع الملف إلى القاضي ليحكم بالحد الأقصى للغرامة الجزافية. حتى وإن كنا قد كتبنا من قبل عن عدم دستورية الإجراءات المتبعة أمام القضاء في ما يخص غرامة الصلح. (عدم دستورية الحكم في إجراءات الغرامة الجزافية في القانون الجزائري) أما السحب أو تعليق رخصة السياقة فهي عقوبة من اختصاص القاضي دستوريا بنص المادة 146 منه.

العقوبات أهدافها وما مدى معقوليتها:
إن التشريع مهما يكن لا يمكن له إلا أن يكون انعكاسا للواقع الاجتماعي من جميع نواحيه، بمعنى آخر لابد أن يكون نابعا من المجتمع الذي يطبق عليه ومنسجما معه، ونستطيع أن نضرب مثالا من عمق انتمائنا الحضاري، فالفقيه العظيم الشافعي تعلم بالحجاز وبدأ ممارسة الفقه فيه وهناك اعترف به فقيها، وأسس مذهبه الذي يعتبر من المذاهب الفقهية السنية الأساسية الأربعة، غير أنه عندما انتقل إلى مصر واستقر فيها نراه قد غير الكثير من أحكام مذهبه الفقهية وصار يقال فيما دونه فِقهًا الكتاب الأول والكتاب الثاني للشافعي، وهو من عُرف إذن بمذهبين وحين انتقدوه برر عمله على أن العادات والتقاليد في مصر تختلف عنها في الحجاز، وحتى لا يكون منفرا للناس من تطبيق تعاليم الإسلام، وبالتالي فالتفكير العربي لم يكن متخلفا يومها عن الأمم التي عاصرت الشافعي، بل كان في بعض من الأمور رائدا وسباقا. أما اليوم فنجد المشرع عندنا يضع القوانين في جانبها الأكبر غير منسجمة مع المجتمع والمحيط الدولي الذي نعيش فيه.
ولا أحد يستطيع أن يقول لنا أنه لا يمكن أن نناقش المشرع في قساوة العقوبة التي يوردها أو خروجها عن المعقول أو أن ما يمكن أن تخلفه من أضرار أكثر مما تخلفه من منافع، فالتشريع إضافة على ما سبق وأن ذكرناه هو خاضع لخلفيات فلسفية أو اجتماعية أو سياسية، وهو بالضرورة للمحافظة على استقرار المجتمع حتى يعيش فيه المواطنون آمنين ومحافظين على كرامتهم.
وحقنا في المناقشة تأتي من سماح السلطة للذين يناقشون في الجزائر أو خارجها مسألة جواز إلغاء عقوبة الإعدام من عدمه.
إننا نرى أن المشرع قد أساء استعمال سلطته عندما جعل من هذا القانون ردعيا وهو في إمكانه اللجوء إلى تدابير أخرى، فالذين يرتكبون هذه المخالفات ليسوا جميعهم متعمدين ارتكابها فيؤخذ بجريرة البعض الآخر، وهذا غير منطقيٍّ تماما. وعلى سبيل المثال كان عليه أن يفرض على المجموعات المحلية على سبيل المثال خلق مراكز أو تكثيف برامج لتوعية السكان بخطر التهور في السياقة أو خلق دورات تكوينية في هذا المجال ولاسيما للمهنيين، وخلق أطر قانونية تشجع المجتمع المدني للقيام بهذه المهمة. فهو مخالف حتى لفلسفة القانون التي تتبناها الجزائر حين صارت تسمي السجون "مؤسسة إعادة التربية" فهل يُعقل بعد هذا أن يتم تبني المفهوم الردعي للقانون فيأتي المشرع في المادة الأولى لينص على ما يلي:
" إقامة تدابير ردعية في مجال عدم احترام القواعد الخاصة بحركة المرور عبر الطرق "
والنقطة المهمة الأخرى التي نحاول التطرق إليها لتبيان خطورتها ومخالفتها لما تم الاتفاق عليه في المجتمع هي ما يخص تأثير هذا القانون على الممتهنين للسياقة. فهي بهذا الاعتبار، وحتى ولو كان الذين يسوقون في الطريق أغلبهم غير مهنيين، فتشديد العقوبة في المخالفات أو الجنح المتعلقة بحركة المرور يعد مساسا بالمهنة، ويفرق بين الجزائريين على أساس مهني والدستور يؤكد على أنه يجب عدم التفرقة بين المواطنين على أساس مهني. أما تشديد العقوبة على المخالفين في ميدان السياقة، فسيمس المهنييين بالدرجة الأولى بالرغم من أن تفادي الأخطار في بعض المجالات المهنية يعدُّ أكثر إلحاحا منه في ميدان السياقة، غير أننا لا نجد الاهتمام بمعاقبة العامل في تلك المهن كالبناء مثلا فلا يعاقب البنَّاء الذي لا يأخذ احتياطاته في سقوط أدواته على المارة، بعقوبات خاصة فيطبق عليه في أسوأ حال المواد التي تطبق على جرائم الجرح والقتل الخطأ 288 إلى 290 من قانون العقوبات، وهل فرضت عقوبات مشددة بشأن المقاولين لما تسببوا في قتل الآلاف عند وقوع زلزال بومرداس.
والأكثر من هذا فإنه في مجال قانون المرور نلاحظ أن العامل هو الذي يتحمل جميع المسؤوليات لوحده دون المساس بصاحب المركبة، خلافا لحالة العامل في كل المهن والتي لا يتحمل المسؤولية الجزائية بل الذي يتحملها هو رب العمل, ما عدا في المادة 83 التي تقرر معاقبة صاحب المركبة الذي لا يخضعها للمراقبة التقنية الدورية الإجبارية، فتنص المادة 12 من قانون المرور 01-14 :
"يتحمل سائق المركبة المسؤولية الجزائية والمدنية عن المخالفات التي يرتكبها"
وتخالفها استثناءا المادة 100 من نفس القانون في تعديل جويلية 2009 بالقول:
"خلافا لأحكام المادة 12 أعلاه، يكون صاحب بطاقة تسجيل المركبة مسؤولا مدنيا عن المخالفات للتنظيم الخاص بوقوف المركبات التي يترتب عليها دفع غرامة لا غير، إلا إذا أثبت وجود قوة قاهرة أو قدم معلومات تسمح بالكشف عن مرتكب المخالفة الحقيقي"
وهذه المادة الأخيرة تتكلم عن المخالفات الخاصة بتوقيف المركبة مثل الواردة في ج 11 و 14 وما شابهها. فلماذا اختيرت هذه المادة بالذات؟ ولماذا تم ربطها بالمسؤولية المدنية؟ فمن المعروف أن في حالات التوقف يكون السائق في أغلب الأحيان غائبا عن المكان، فيتعذر توقيع العقوبة على صاحب رخصة السياقة من جهة ولا يمكنه توقيعها على صاحب بطاقة التسجيل فاكتفى المشرع بتحميل هذا الأخير المسؤولية المدنية، مما يعني أن هذه المادة تطبق في حالة حدوث حادث يتطلب بموجبه التعويض المادي. وحينها يتطلب الأمر البحث عن صاحب السيارة وحتى إذا وجد يمكنه التحلل من المسؤولية إذا أثبت أن هناك قوة قاهرة جعلته يوقف سيارته في ذلك المكان أو يدِلُّ أعوان الأمن على من كان يتولى السياقة، والذي إذا ما تم التعرف عليه فبالإمكان تحميله المسؤوليتين الجزائية والمدنية. لماذا نذهب إلى هذا التفسير؟ نجيب ببساطة بالقول أن المادة لم تحمِّل صاحب بطاقة التسجيل سوى المسؤولية المدنية، وسكتت تماما عمن يتحمَّل المسؤولية الجزائية. ولا ندري لماذا أورد المشرع هذه المادة هل لكي يؤكد لنا أن صاحب المركبة غير مسؤول مهما كان الأمر متصلا به، فهو بإمكانه أن يتحلل من المسؤولية المدنية إذا أثبت أن هناك قوة قاهرة جعلته يركن مركبته هناك كأن لا يكون له خيار آخر في أن يستعمل ذلك المكان لشحن بضاعة معرضة للتلف أو أن يكون رب عمل فيُحمِّل المسؤلية العامل الذي لا حول ولا قوة له، بجعل رجال الأمن يستدلون على أنه هو من كان يسوق المركبة، وهم من قام بركنها في المكان الذي يشكل المخالفة، والإثبات هنا يرجع للقواعد العامة أي بجميع الوسائل، ما دام لم يتم النص على كيفية الإثبات.
وفي كل الأحول نذكر بوجوب رفع مثل هذه المخالفات، المرتبطة بالتعويضات المدنية، إلى المحكمة حسب ما هو وارد في المادة 393 فقرة 1 من قانون الإجراءات الجزائية:
"لا يعمل بإجراء الغرامة الجزافية في الأحوال الآتية:

فلماذا أوردها المشرع في هذا القانون بالرغم من أن المخالفات الأخرى أيضا قد تتسبب في أضرار مادية للآخرين؟ ويصبح غير معمول بالغرامة الجزافية، فيلجأ إلى التعويضات المدنية أو تحول المخالفة إلى المحكمة. ويزول ما يبرر هذا التساؤل إذا كان جميعنا يعرف لمن هي ملكية الشاحنات والحافلات على الأخص التي يقوم بسياقتها عمال أجراء. ولذلك فإذا حدث وأن أوقعت أي مركبة أضرارا بالغير بسبب توقيفها في مكان ما وكانت بدون سائق فمن غير اللائق إزعاج صاحبها أو توقيع عقوبة الغرامة عليه أو سحب رخصة السياقة منه، أو استدعاؤه إلى المحكمة إلا في حالة ما إذا لم يستطع أن يثبت لهم أن من كان يسوقها شخص آخر. والحكمة القديمة تقول: "من يملك يحكم" وما زال المشرع عندنا متمسكا بهذه الحكمة رغم أنه من المفروض أن يكون قد تأكد أنها لم تعد صالحة اليوم فقد تغيرت المفاهيم وصار من يحكم الناس هو من يهتم بأمورهم، وصار الصحيح ما قالت العرب قديما: "خادم القوم سيدهم" وحتى عندنا في الجزائر يتردد هذا المثل كما يلي: "خدام الرجال سيدهم" فأين نحن من كل هذا إذا صار هدف من يتولى أمور الناس استعبادهم، وتضخيم ثروته على حسابهم.
ونعود للحديث عن المادة 12 التي قبلها فنقرأ أن في منطق المشرع أن السائق الأجير بإمكانه أن يشترط على رب العمل عجلات مطاطية جديدة أو على الأقل مقبولة ويرفض تلك المهترئة وإلا امتنع عن العمل، والكل يعرف ظروف البطالة التي تعرفها الجزائر وحاجة كل رب أسرة إلى كفاية وعائلاته في المأكل والمشرب مع الغلاء الحاد في جميع الأمور المعيشية مع تجمد الأجور وقلة الموارد. فمثل هذا السائق الأجير مصيره التسريح وعليه في هذه الحالة أن تكون له الخبرة في التعامل مع رجال الأمن حتى يحافظ على منصب عمله.
ونبقى مع وضعية من اتخذ السياقة مهنة فصار مهددا على الدوام بضياع أجرة يومِ عمله وربما بحرمانُه من العمل لمدة شهرين على الأقل إذا كان يعمل بمركبته، فتصور معي كيف توقع العقوبة على سائق أجير غرامةً بمبلغ 6.000.00 دج ونعرف أن هناك من يتقاضى شهريا 3.000.00 دج في إطار الشبكة الاجتماعية، أو إذا كان عاملا يتقاضى ما يساوي الأجر الوطني الأدنى أي مبلغا لا يزيد عن 15.000.00 دج مخصومة منها حقوق الضمان الاجتماعي شهريا فتقترب الغرامة من نصف أجرته الشهرية، أليس هذا إجحاف بحق من يمتهنون مهنة السياقة.
فالعامل في الميادين الأخرى غير السياقة لا تشمله على الإطلاق مثل هذه العقوبات التي قد تأتي من عدم اهتمام رب العمل بمركبته، سواء كانت خطيرة أو بسيطة.
وإضافة إلى ما سبق هل من المعقول أنَّ من ينسى رخصة سياقته على سبيل المثال يدفع غرامة لا تقل 2000 دج وإذا لم يستطع توفيرها في ظرف يومين تعلق رخصة سياقته لمدة شهرين ومن ثم قد يفقد معها منصب عمله كلية، أو من احترق بشكل مفاجئ مصباح إنارة الإشارة في سيارته، فهل أي واحد منا يعلم متى يحترق مصباح بيته فقد حدث معنا كثيرا ونحن نشعل مصباح بيتنا فنُفاجأ أنه يحترق أو نجده قد احترق بالرغم من أنه كان صالحا لما قمنا بإطفائه. و أين هي السلامة من حوادث الأمور وأنا أنسى أخذ رخصة السياقة في البيت فهل عند المشرع أن الكاغط هو الذي تعلم السياقة أم أنا، ونقول للمشرع أن العمامة لا تجعل رجلا ما عالما.
وعلينا أن نتكلم عن العقوبة الخاصة بمخالفة أحكام الأولوية في المرور فهل إذا سمح لي السائق صاحب الأولوية بالمرور قبله؟ فتكون النتيجة معاقبتي ونفس الشيء هل أعاقب إذا قدَّرت أنه بعيد وبإمكاني المرور قبل أن يصلني؟ وقد اعتدنا سابقا أن هذا الأمرَ يعمل به لتحديد صاحب المسؤولية المدنية في حالة وقوع اصطدام، فتقع على من لم يحترم الأولوية، وقد يعالج الأمرُ وديا إذا كانت المركبتان مؤمنتين وإن حدث وارتقى الحادث إلى جنحة لوقوع إصابات جسدية بين الراكبين، فقد يتم التصالح بقبول التعويض إذا سمح القانون أو يتم تحويل الملف إلى العدالة بالضرورة حسب المادة 393 فقرة 1 من قانون الإجراءات الجزائية.
ونأتي في الأخير للحديث عن أسباب حوادث المرور فنجد أن السلطة تحاول أن تنفي مسؤوليتها المباشرة والفعلية مع أنها تتحمل القسط الأوفر منها، أوَّلا في ما فعلته خلال العشرية السابقة بتشجيع قروض السيارات السياحية، ومن ثم تمة خِدمة المستورِدين وبالتبعية الشركات المصنعة في جميع أنحاء العالم، ونعرف أن مركز رأسماليي العالم واحد، وصارت حتى المنظمات الاجتماعية للعمال تشجع على شراء السيارات بمنح العمال قروضا بدون فوائد وطويلة الأمد، ونحن نعرف أن الجزائر لا تمتلك ولو مصنعا للسيارات، ومن هنا لا يمكن لنا أن نعزو هذا المنحى إلى النهوض بالاقتصاد الوطني. ومقابل كل ما سبق لم تولي اهتماما كافيا للنقل العمومي بل تم حل جميع مؤسسات النقل العمومي للبلديات، لتصبح السيارة ضرورية عائليا. (وقد تراجعت مؤخرا وتم تأسيس العديد من المؤسسات البلدية للنقل العمومي) بالإضافة إلى ذلك نتحدث عن عمل سيارات الحماية المدنية على قلتها فهي مكلفة بإيصال المرضى إلى المستشفى وإرجاعهم منوط بأهلهم حتى ولو كان ذلك عند الساعة الواحدة ليلا. فكيف لا يطمح أي مواطن، بعد كل هذا، لامتلاك سيارة حتى ولو كان ذلك على حساب حرمان أولاده من حليب الصباح. فصارت حركة المرور تتجاوز قاعدة الطرقات في الجزائر، مع عدم صلاحيات الكثير منها مما يجعلها مع الازدحام سببا في حوادث المرور صيفا وشتاء، وحتى طريقة وضع إشارات المرور قد يكون سببا في حوادث المرور وعنها فحدث ولا حرج، فمن غير الغريب إذا تحدثنا عن وضع إشارة تعلن عن وجود ممهل بجانبه تماما وليس قبل الوصول إليه ولو بمتر واحد.
بعد كل ما تطرقنا إليه فإننا نجد المشرع لم يفعل شيئا يقال له بشأنه أحسنت إذا استثنينا إلغاءه لأحكام حزام الأمن التي وردت في القانون 04-16 الصادر سنة 2004 المعدل والمتمم للقانون 01-14، أما عن عدم دستوريته فقد أبقى القانون 01 – 14 على حاله مع تغييره لبعض المصطلحات، ويمكن أن نقول أنه زاد إساءة لما جعل مهنة السياقة يعيش صاحبها في قلق دائم، ويعرضه للمساس بكرامته ولاسيما لما تم المساس بجيبه، وهو يرى أولاده يجوعون، ففي مثل هذه الحالة سوف يلجأ بالضرورة إلى أفعال غير أخلاقية ويتعلمها وتصير من طبع الجزائري ولاسيما في هذه الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد، إن هذا القانون يعد من أهم العوامل التي يريد البعض أن يقود بها المجتمع الجزائري إلى عدم الاستقرار والفوضى العارمة، وما يهم هؤلاء أنفسهم هو وضع الجزائري تحت الاختبار عن مدى رد فعله ونفض الغبار عنه، والوقوف ضد من يتعمد إهانته أو قيادته نحو ما يجعله ذليلا ذلولا منقاذا إلى هذا أو ذاك، فهل أنقذ من إهانة حزام الأمن، إلى جعله عبدا يتعرض للعقوبة وهو يعلم بإيقاعها عليه بينما المسؤول عنها هو شخص آخر أقوى منه وأعلى منه يسمى "رب العمل".
1- إذا كانت المخالفة تعرض مرتكبها للقيام بإصلاح التعويضات للأشخاص أو الأموال.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الساعة بتوقيت الجزائر تشير الى

 

Copyright 2008 All Rights Reserved | الجزائر للسياحة Designed by Bloggers Template | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة