الخميس، 6 مايو 2010

السنة النبوية في المواطنة والوحدة الوطنية


للدكتور / محمد عمارة

المواطنة: مفاعلة اي تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه وهي علاقة تفاعل، لانها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات فلابد لقيام المواطنة ان يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي اليها ويدافع عنها، بكل مافي عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة والارض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين.. وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من اعداء هذا الوطن.
وكما أن للوطن هذه الحقوق علي المواطن، فإن لهذا المواطن علي وطنه وشعبه وأمته حقوقا كذلك من اهمها المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الامة والشعب جسدا واحدا.. وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية، بسبب التمييز علي أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت وعلي اساس العرق بسبب الحروب القومية وعلي أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء وعلي اساس اللون في التمييز ضد الملونين .. فإن المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات.. قد اقترنت بالاسلام، وتأسيس الدولة الاسلامية الاولي في المدينة المنورة علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فالإنسان في الرؤية الاسلامية هو مطلق الانسان.. والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم.. والخطاب القرآني موجه اساسا الي عموم الناس. ومعايير التفاضل هي التقوي المفتوحة ابوابها امام الجميع..

المواطنة والإسلام

ولقد وضعت الدولة الاسلامية فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الاولي لقيام هذه الدولة في السنة الاولي للهجرة.. ففي أول دستور لهذه الدولة تأسست الامة علي التعددية الدينية، ونص الدستور الصحيفة علي أن 'اليهود امة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وان لهم النصر والاسوة مع البر من اهل هذه الصحيفة.. ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم..'
هكذا تأسست المواطنة، بالاسلام، في الدولة الاسلامية، عندما جمعت الامة أهل الديانات المتعددة، علي قدم المساواة، لاول مرة في التاريخ.. وعندما بدأت العلاقات بين سلطة الدولة الإسلامية علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وبين المتدينين بالنصرانية نصاري نجران سنة 10 ه قررت لهم الدولة الاسلامية بالعهود الموثقة كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، وكان الشعار هو: 'لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين'.. ولقد نص العهد الذي كتبه رسول الله صلي الله عليه وسلم لنصاري نجران ولكل النصاري عبر الزمان والمكان علي 'أن لنجران وحاشيتها، وسائر من ينتحل النصرانية في أقطار الارض، جوار الله وذمة محمد رسول الله، علي أموالهم وأنفسهم وملتهم.. وبيعهم، وكل ما تحت ايديهم.. ان احمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي.. لأني أعطيتهم عهد الله علي أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما علي المسلمين، وعلي المسلمين ما عليهم، حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم..' وعندما اباح الاسلام زواج المسلم من الكتابية اليهودية والنصرانية اسس ذلك علي شرط احترام عقيدتها الدينية احتراما كاملا.. ولابد في الزواج من رضا الاهل.. ولقد جاء في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم لنصاري نجران عن هذا الزواج: ' ولا يحملون من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت علي تزويج المسلمين.. لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم.. إن أحبوه ورضوا به.. وإذا صارت النصرانية عند المسلم فعليه أن يرضي بنصرانيتها، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها والاخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها علي شيء من امر دينها، فقد خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله، وهو عند الله من الكاذبين'.

بل لقد بلغت آفاق المساواة في حقوق المواطنة الي الحد الذي نص فيه عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم الي النصاري علي مساعدة الدولة الاسلامية لهم عند الحاجة في بناء دور عبادتهم وترميمها.. وجاء في هذا العهد والميثاق النبوي: 'ولهم إن احتاجوا الي مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلي رفد (أي دعم وإعانة) من المسلمين وتقوية لهم علي مرمتها، أن يرفدوا علي ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم علي مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله لهم، ومنة لله ورسوله عليهم..'

الولاء للوطن

وحتي في المسائل المالية والاقتصادية مثل الخراج والضرائب نص عهد رسول الله للنصاري علي أنه 'لا يجار عليهم، ولا يحملون إلا قدر طاقتهم وقوتهم علي عمل الارض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلفون شططا ، ولا يتجاوز بهم أصحاب الخراج من نظرائهم..'

وكل حقوق المساواة في المواطنة، التي قررها الاسلام لغير المسلمين في الدولة الاسلامية 'لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين.. وحماية الانفس والدماء والاموال والاعراض واماكن العبادة والحريات' هي في مقابل الولاء الكامل للوطن والانتماء الخالص للمجتمع والدولة والامة وهي واجبات علي كل المواطنين ، المسلمين منهم وغير المسلمين.. وفي تقرير هذه الواجبات نص عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: 'واشترط عليهم أمورا يجب عليهم في دينهم التمسك والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينا لأحد من أهل الحرب علي أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوي منازلهم عدو للمسلمين، ولا يساعدوا أحدا من أهل الحرب علي المسلمين بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وأن يكتموا علي المسلمين، ولا يظهروا العدو علي عوراتهم..'

كذلك نص عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم للنصاري علي الحرية الدينية.. فجاء فيه: 'ولا يجبر أحد ممن كان علي ملة النصرانية كرها علي الاسلام (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت: 46 ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذي المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد..'.

المساواة بين الجميع

بل إن هذه المساواة الكاملة في حقوق المواطنة وواجباتها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، وعلي المسلمين ما عليهم، حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم' لم تقف بها الدولة الاسلامية عند أهل الكتاب اليهود والنصاري وإنما شملت حتي المتدينين بالديانات الوضعية من المجوس وغيرهم فبعد فتح فارس عرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه الامر علي مجلس الشوري مجلس السبعين وقال : نحن نعرف حكم اليهود والنصاري.. فماذا عن حكم هؤلاء المجوس؟.. فوثب عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قائلا: 'اشهد أني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ' سنوفيهم سجنة أهل الكتاب' فعاملت الدولة الاسلامية طوال تاريخها أهل الديانات الوضعية المجوس .. والزرادشت.. والبوذيين. والهندوس معاملة أهل الكتاب، التي قررت مبادئها مواثيق رسول الله صلي الله عليه وسلم.. لغير المسلمين في الدولة الاسلامية..

وإذا كانت المواطنة وحقوقها قد عرفها الغرب علي أنقاض الدين، بعد انتصار العلمانية علي الكنيسة الغربية.. ولذلك جاءت مواطنة علمانية.. فإن الاسلام هو الذي انشأ المواطنة، وشريعته هي التي قررت حقوقها، وبذلك ضمنت القداسة لهذه الحقوق، حتي لا تكون 'منحة' يسمح بها حاكم ويمنعها آخر.. وبعبارة رسول الله صلي الله عليه وسلم 'فمن خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله فهو عند الله من الكاذبين'.
كذلك ، قرر الإسلام في دستور دولة المدينة أن الشريعة الاسلامية كما هي ضامنة للحقوق والواجبات في المواطنة فإنها هي المرجع عند الاختلاف.. فنص هذا الدستور علي 'أنه ماكان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الي الله وإلي محمد رسول الله'..

*****

هكذا أبدع الاسلام الدين والدولة والحضارة كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، قبل أربعة عشر قرنا.. عندما كانت الدول والحضارات الاخري لا تعترف بالآخر.. فالمواطنون في أثينا كانوا هم الرجال الاحرار الملاك الاشراف من اليونان، ومن عداهم برابرة ليست لهم أية حقوق.. وكذلك كان الحال عند الرومان.. لكن الإسلام هو الذي قرر وقنن وطبق كامل المساواة بين الرعية والامة في الدولة الاسلامية، في تكافؤ الفرص.. وفي حرمة الانفس.. والدماء.. والاعراض.. والاموال.. والعقائد.. والحريات.. ولذلك فتحت الابواب الواسعة أمام مختلف الملل والنحل والمذاهب فشاركوا في بناء هذه الحضارة الاسلامية وصنع التاريخ الاسلامي.
وإذا كانت السنة النبوية هي البيان النبوي للبلاغ القرآني.. فإن هذه العهود النبوية التي قننت حقوق المواطنة وواجباتها هي 'سنة نبوية قولية'، تحولت بالتطبيق الي 'سنة عملية' ايضا.. وأمام هذه السنة النبوية لا مجال لاي اجتهاد يخالفها، بصرف النظر عن مقام صاحب الاجتهاد المخالف..
لقد شهد التاريخ الاسلامي آراء مختلفة إزاء غير المسلمين في المجتمعات الاسلامية.. وكانت كثير من هذه الآراء ثمرة لظروف سياسية.. ومخاطر خارجية.. لكن يظل الإسلام هو كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ففيهما الحكم العادل في قضية المواطنة والوحدة الوطنية، التي قررها الاسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الساعة بتوقيت الجزائر تشير الى

 

Copyright 2008 All Rights Reserved | الجزائر للسياحة Designed by Bloggers Template | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة