الخميس، 6 مايو 2010

علاقة الإنسان بالدولة: مواطنة أم تابعية


بقلم:ماهر الجعبري

تطفو على ساحة الفكر والتنظير السياسي العديد من المفاهيم التي هي من إفرازات الثقافة الغربية، ونتائج الصراعات التي شهدها الغرب في طريقه لصناعة حضارته الحديثة. وهذه المفاهيم قد باتت تروّج بين أبناء الأمة الإسلامية كبدائل فكرية عن المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وبعضها بالتأكيد يندرج ضمن محاولات التضليل، وبالتالي فهي عملية تلويث فكري بهدف سياسي، يصب في تمييع الطرح الإسلامي للتغيير، ولإشغال المسلمين في العمل لتحقيق مطالب ترقيعيّة، ولصرفهم عن التفكير بالحل الجذري الذي ينهض الأمة لستعيد حضارتها ورسالتها العالمية. وقد بات بعض المسلمين يتداولون هذه المفاهيم بشيء من القبول انضباعا بثقاقة الغرب الذي غلب الأمة في الكثير من جولات هذا القرن. ومن هذه المفاهيم المواطنة، التي هي مثلا محل انشغال للأذهان في العراق، ولبنان والأردن وغيرها من بلاد المسلمين.

والمواطنة ببساطة هي الانتماء للأرض والوطن دون غيرها من الانتماءات والولاءات الأخرى، واعتبار الوطن هو المرجعية التي تجمع الناس الذين يعيشون فيه. وبناء عليها يتمتع الإنسان بالمساواة مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، تعرّف حسب مفاهيم حقوق الإنسان (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها. وحسب الموسوعة الحرة – ويكيبيديا فإن المواطنة هي وحدة الانتماء والولاء من قبل كل المكون السكاني في البلاد على اختلاف تنوعه العرقي والديني والمذهبي للوطن الذي يحتضنهم، وأن تذوب كل خلافاتهم واختلافاتهم عند حدود المشاركة والتعاون في بناءه وتنميته والحفاظ على العيش المشترك فيه.

وهذه المفاهيم تتجسد في التشريعات الوضعية، فمثلا ورد في مسودة مشروع دستور العراق تحت المادة الثالثة: "يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية، ومن قوميات أساسية (قومية أساسية) هي التركمانية والكلدانية والآشورية والسريانية والأرمنية والشبك و(الفرس) ومن يزيدية وصابئة مندائيين، يتساوون كلهم في حقوق وواجبات المواطنة." ولم تتضمن النسخة الأخيرة للدستور العراقي هذا النص. ويتردد أيضا مصطلح الجنسية بمعنى قريب كما تنقل د. زينب المعادي في مقالها "الأم المسلمة وقانون الجنسية" المنشور على صفحة مركز الدراسات أمان على الإنترنت، عن أحمد قسمت الجداوي قوله: "الجنسية معيار للتمييز في وقتنا الحاضر بين الأجنبي والوطني. وهى مفهوم وضعي علماني حديث الظهور يتم التمييز بموجبه بين البشر على أساس الانتماء الوطني لا الديني".

وكعينة من نظرة الكتاب المروّجين لمفهوم المواطنة يمكن مثلا الرجوع لمقال ياسر خالد عبد بركات بعنوان "مبدأ المواطنة واستحقاق الدستور الدائم" منشور على صفحة مركز المستقبل للدراسات والبحوث: "ويندرج ضمن هذا المفهوم، الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات، فالمواطنة تسبغ أو تضفي على المواطن حقوقاً سياسية وأخرى قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية...الخ." وهو يتحدث عن علاقة المفهوم بالتجربة العراقية وعن ضرورة التوافق (الوضعي) على تنظيم علاقة المواطنة بالقول: "ولعل القاسم المشترك ـ في وقتنا الحاضرـ المعبر عن وجود قناعة فكرية وقبول نفسي، والتزام سياسي بمبدأ المواطنة يتمثل في التوافق المجتمعي على عقد اجتماعي (دستور) يتم بمقتضاه تضمين مبدأ المواطنة والوطنية باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز عرقي أو طائفي أو ديني." ومن ثم يربط المفهوم بالوحدة الوطنية بالقول "تنمية وترسيخ ما يسمى بثقافة الوحدة الوطنية بين ميادين الشعب وفي عموم المجتمع".

ويعتبر بعض الكتّاب أن المواطنة هي القلب النابض لمفهوم الديمقراطية أو روحها، وبالتالي فدحضها متعلق ابتداء بدحض الديمقراطية، والتي يخطئ البعض في تصورها على أنه مجرد أسلوب لاختيار الحاكم من قبل الشعب، بينما هي تحكيم للشعب (من خلال ممثليه) لتشريع طريقة العيش كنهج وضعي وليس بناء على الوحي كما يقرر الإسلام، وتفتح المجال للعديد من الحريات التي لا يقرّها الشرع، من مثل حرية الإعتقاد التي تتعارض مع حكم قتل المرتد.

ومفهوم المواطنة هذا يطرح لصرف المسلمين عن التوحد على أساس العقيدة، وجاء في وثيقة الأردن أولا المقدمة لملك الأردن بناء على تكليف منه ما يؤكد أن مفهوم المواطنة يطرح في معرض الصراع مع المطالبين بالإسلام ومن يسمّونهم متطرفين: "السعي لتكريس مفهوم المواطنة وتعميق الهوية الوطنية ونبذ مظاهر الغلو والتطرف والاستقطاب والنزعات المسيئة للوحدة الوطنية والضارة بالنسيج الاجتماعي واشاعة ثقافة التسامح وقبول الآخر. "

إذن فالمواطنة مفهوم مرجعه الوطن وليس الدين، ولا يحدد للدين أي دور في تنظيم الحياة، وهو لا يعترف بالاختلافات على أساس المعتقد، ومن ثم فلا فرق فيها مثلا بين المسلم والمرتد في الحقوق والواجبات، وذلك واضح مثلا في النص المقتبس من مسودة الدستور العراقي. وهذا المفهوم يختلف اختلافا عريضا مع الإسلام، حيث يتوجب قتل المسلم إذا ارتد فيفقد حياته وهي أغلى حق في المواطنة. ثم إن مفهوم المواطنة يربط الناس على أساس الرابطة الوطنية التي هي رابطة غير مبدئية وبالتالي فهي غير دائمة وغير صالحة لإيجاد أمة متماسكة، بينما الإنسان يربط المسلمين برابطة العقيدة الإسلامية وهي رابطة مبدئية تحقق ديمومة تماسك المجتمع. والإسلام يرجع الأمور كلها للمبدأ الإسلامي، ولا يوجد أية مرجعية للوطن في صياغة الحياة وأنظمتها بل هي مستندة للأحكام الشرعية ولا شيء غير.

وقد يختلط مصطلح المواطنة لدى بعض المسلمين مع مفهوم التابعية في الدولة الإسلامية، أو مصطلحات أخرى ترددت لدى الفقهاء المسلمين مثل "الرعوية" و "أهل دار الإسلام". والتابعية في الدولة الإسلامية تشمل الذين يعيشون ضمن دار الإسلام، أي الذين يخضعون لسلطان المسلمين بغض النظر عن أوطانهم. وهذا بالطبع مفهوم مختلف، إذ يحمل التابعية في دولة الإسلام مسلمون وأهل ذمة من غير المسلمين. جاء في كتاب نظام الحكم في الإسلام للشيخ تقي الدين النبهانيّ تحت عنوان "شكل الحكم في الإسلام": "وطريقة الإسلام في الحكم هي أنه يسوي بين المحكومين في جميع أجزاء الدولة، وينكر العصبيات الجنسية، ويعطي لغير المسلمين الذين يحملون التابعية حقوق الرعية وواجباتها، فلهم ما للمسلمين من الإنصاف، وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف، بل هو أكثر من ذلك لا يجعل لأي فرد من أفراد الرعية - أياً كان مذهبه - من الحقوق ما ليس لغيره ولو كان مسلماً، فهو بهذه المساواة يختلف عن (الإمبراطورية)". إذن هنالك تبعية للناس في الدولة الإسلامية ولكن الأسس مختلفة تماما ما بين أسس شرعية وأسس ديمقراطية وضعية.

والناس حسب الشرع الإسلامي سواسية أمام القانون، سواسية في الأمور التي تتعلق بإنسانيتهم، ولكن هنالك فروقا واضحة في الأحكام الشرعية، فمثلا يتوجب على المسلم الجهاد، ولا يتوجب على الذميّ الذي يتوجب عليه دفع الجزية. وحسب مفهوم المواطنة، فلكل مواطن الحق بالترشّح ليصبح حاكما، بينما الإسلام لا يعطي هذا الحق إلا لمن كان مسلما، مع أنه في الوقت نفسه يسمح دخول غير المسلم في مجلس الشورى كونه ليس حكما، كما جاء ضمن "أجهزة الدولة" حسب الموقع الرسمي للمكتب الإعلامي لحزب التحرير تحت بند "مجلس الأمة - عضـويـة مجلـس الأُمّــة"، "لكل من يحمل التابعية إذا كان بالغاً عاقلاً الحق في عضوية مجلس الأُمة، وله الحق في انتخاب أعضاء مجلس الأُمة، سواء أكان رجلاً أم امرأة، مسلماً كان أم غير مسلم. وذلك لأن مجلس الأُمة وكيل عن الناس في الرأي فقط، وليست له صلاحية الحكم والتشريع." ويبين المساواه في الأمور الإنسانية بالقول: "وأيضاً فالإسلام ينظر للرعايا الذين يحكمهم نظرة إنسانية محضة، بقطع النظر عن الطائفية، والجنس، والذكورة، والأنوثة. وتكون سياسة الحكم المرسومة لهم بوصفهم الإنساني فقط، حتى يكون الحكم لمصلحة الإنسانية، ليخرجها من الظلمات إلى النور. ولهذا كان الرعايا متساوين في الحقوق والواجبات المتعلقة بالإنسان باعتباره إنساناً، من حيث تطبيق الأحكام الشرعية على الجميع، والقاضي حين يفصل الخصومات، والحاكم حين يحكم، لا يفرق بين الناس، بل يعاملهم على السواء بوصفهم يحملون التابعية لا بأي وصف آخر."
أما الدستور الذي استنبطه حزب التحرير للدولة الإسلامية فيحدد هذه الحقوق والواجبات كلها بالأحكام الشرعية، وبالتالي فالإسلام (لا الديمقراطية أو الشراكة في الوطن) هو المرجع الوحيد في سنّها وتشريعها، فقد ورد ضمن المادة 5 - "جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق والواجبات الشرعية." ومن ثم يحرّم الدستور التمييز حسب المادة 6- "لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك." وأكّد مرجعية الشرع في المادة 7 - "تنفذ الدولة الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين على الوجه التالي:
أ - تنفذ على المسلمين جميع أحكام الإسلام دون أي استثناء.
ب - يُترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون ضمن النظام العام.
ج - المرتدون عن الإسلام يطبق عليهم حكم المرتد إن كانوا هم المرتدين، أما إذا كانوا أولاد مرتدين وولدوا غير مسلمين فيعاملون معاملة غير المسلمين حسب وضعهم الذي هم عليه من كونهم، مشركين أو أهل كتاب.
د - يعامل غير المسلمين في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن ما تجيزه الأحكام الشرعية.
هـ - تفصل أمور الزواج والطلاق بين غير المسلمين حسب أديانهم، وتفصل بينهم وبين المسلمين حسب أحكام الإسلام.
و - تنفذ الدولة باقي الأحكام الشرعية وسائر أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات وبينات ونظم حكم واقتصاد وغير ذلك على الجميع ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء، وتنفذ كذلك على المعاهدين والمستأمنين وكل من هو تحت سلطان الإسلام كما تنفذ على أفراد الرعية إلا السفراء والقناصل والرسل ومن شاكلهم. فإن لهم الحصانة الدبلوماسية."
هكذا يعرّف الإسلام التابعية للدولة ويجعل الشرع الإسلامي هو المرجع الوحيد في تشريعاتها، وبالتالي فهي تستند للوحي ولا شيء غير. بينما مفهوم المواطنة الذي يطرحه الفكر الغربي يعرّف الحقوق حسب مفاهيم حقوق الإنسان (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) التي تستند الى الوضع من قبل البشر وبالتالي فهي احتكام لغير شريعة الله وهي حكم جاهلية يجب لفظه والتنصل منه.
إذن فالمنادى بالمواطنة على أساس الوطن من قبل من التبس عليهم الأمر من المسلمين هي مناداة بشعار كفر مع تحويره وتفصيله ليتوافق مع الإسلام. والأصل أن يتداول المسلمون مصطلح التابعية لأنه يستند في إقرار الحقوق والواجبات للوحي. والمسألة ليست مجرد إختلاف بالكلمات بل هي خلاف جوهري في المفاهيم، وهي كالفرق بين الشورى والديمقراطية، والتي يخطئ البعض في خلطهما في معنى واحد، مع أن الأولى هي حكم شرعي والثانية هي مبدأ كفر تحرم المناداة به. فليحرص المخلصون من أبناء هذه الأمة على تنخيل ثقافتهم الإسلامية من كل ما علق بها من ثقافات الغرب الكافر

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الساعة بتوقيت الجزائر تشير الى

 

Copyright 2008 All Rights Reserved | الجزائر للسياحة Designed by Bloggers Template | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة